امرأ القيس بن حجر الأمير الكندي! أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثرًا، 1 وهو من أهل نجد، من الطبقة الأولى، 2 بل كان رأسها عند العرب، يقول ابن عساكر: كان بأعمال دمشق، وقد ذكر مواضع من أعمالها في شعره. 2
ولد امرؤ القيس سنة خمس مئة وأربعين (540) من الميلاد، كان من قبيلة كندة التي هي إحدى القبائل العربية الشهيرة، يقول الدكتور شوقي ضيف في هذا الصدد: امرؤ القيس من قبيلة كندة، ومن بيت السيادة فيها، وهي قبيلة يمنية كانت تنزل في غربي حضرموت، وهاجرت منها جماعة كبيرة إلى الشمال مع هجرات اليمنيين المعروفة، واستقرت جنوبي وادي الرّمّة الذى يمتد من شمالي المدينة إلى العراق. 4 لكن مع الأسف الشديد أنه قد أفنى حياته في الغي والغواية رغم كونه من الأشراف ومن أسرة توارثت الملك.
اختلف أهل التاريخ والتراجم في اسمه ولقبه فرويت في اسمه عدة روايات، ذكر عبد الرحمن المصطاوي في مقدمة "ديوان امرئ القيس" موضحًا اسمه ولقبه وكنيته فقال: اسمه حندج، وقيل: عدي، وقيل: مليكة، ولقب بذي القروح وبالملك الضليل، وبامرئ القيس، وطغى هذا اللقب على اسمه وعرف به، وعرف بثلاث كنى، هي: أبو وهب، وأبو زيد، وأبو الحارث. 5
وكذلك ذكر ابن عساكر هذه الكنى في تاريخ دمشق أيضًا، 6 أما حندج فأوضحه عبد القادر البغدادي في "خزانة الأدب" حيث قال: والحندج بضم الحاء المهملة والدال وسكون النون وآخره جيم، وهو في اللغة الرملة الطيبة، وقيل: كثيب من الرمل أصغر من النقا. 7 وأما لقبه امرؤ القيس فرويت في قراءته طرق عديدة أوضحها ابن الأنباري في شرح قصائد السبع الطوال الجاهليات نقلًا عن أبي بكر قال: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: امرؤ القيس بمنزلة عبد اللّٰه وعبد الرحمن، وفي إعرابه أربعة أوجه، يقال: قال امرؤ القيس بضم الراء والهمزة، وقال امرأ القيس بفتح الراء وضم الهمزة، وقال مُرءُ القيس بضم الميم والهمزة بغير ألف، ويقال مَرء القيس بفتح الميم وضم الهمزة. 8
ويذكر صاحب خزانة الأدب عن سبب تلقيبه به فقال: امرؤ القيس لقب له، لقّب به لجماله، وذلك أن الناس قيسوا إليه في زمانه فكان أفضلهم. 9 فحسنه قد أطربه في اللذات الشهوانية والرغبات الدنيوية بينما كانت عنده فرص متاحة ليكون رجلًا وجيهًا؛ لكنه انهمك في الغياهب والملاهي، وله ألقاب أخرى كما مرت آنفًا من أنه لُقب بـ"ذي القروح" وبـ"الملك الضليل" وبـ"امرئ القيس" وطغى هذا اللقب على اسمه وعُرف به . 10
وإنما لقب بـ"الملك الضليل" لأنه لم يكن خلَفًا صالحًا، بل كان خلْفًا طالحًا، منغمسًا في الطرب والترف، وأما لقبه بـ"ذي القروح" أي: الجروح، فإنه قد مات بقروح أصابته من لبس جبة مسمومة.
ذكر نسبه في كتب التاريخ إلى أجداده القريبين بينما نجده في كتب أخرى بتمامه أي: إلى جده الأعلى، فقد روي نسبه القريب في طبقات فحول الشعراء على النحو التالي: امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية ابن كندة. 11 وكذا نقله ابن عساكر في تاريخه مع إضافة يسيرة حيث زاد "الحارث بن يعرب" بعد معاوية، 12 وأما نسبه الكامل إلى نوح عليه السلام فقد نقل بعضه الشيخ عبد القادر البغدادي، فیذکر: ثور الأكبر وهو كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة ابن أدد الشاعر المقدم. 13
وأوصله ابن الأنباري إلى نوح عليه السلام حیث قال: ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح النبي عليه السلام. 14
يتضح من نسبه الكامل هذا أمران، الأول: أن امرأ القيس كان شاعرًا ماهرًا باهرًا، ومن ثم حوفظ على نسبه، والثاني: أن العرب كانوا يهتمون بالنسب اهتمامًا بالغًا يزيد الرجل والقبيلة شرفًا وفضلًا.
تنقسم حياة هذا الشاعر الجليل على مرحلتين، أولاهما: مرحلة الشباب العابث، والثانية مرحلة السعي العائر إلى الملك، يفصل بينهما مصرع أبيه، نشأ حندج نشأةً ترف في بيت ملك واسع الجاه، يبسط عبد الرحمن المصطاوي الكلام فيه حيث قال: نشأ حندج في نجد من أسرة توارثت الملك، ودانت لها قبائل العرب من ربيعة ومضر، ومضى يتردد بين أسرة أبيه وأسرة خاله المهلهل من تغلب، مزهوًا بنفسه وبملك أبيه، غارقًا في لذائذ الدنيا، إن مال إلى اللهو وجد بين الإماء والقيان طلبته، وإن طلب الطرد والقنص سار في ركابه فتيان مجان، يبغون ما يبغي من نزو على الجياد، ومطاردة للفرائس، وعندما تنادى امرؤ القيس في ضلاله طرده أبوه، فلم يزد الطرد مجانته إلا اطرادًا، وإلحاحًا على الغي، إذ راح ينفق عمره في الشهوات، ويعايش من شذ وتصعلك، ومن غوى وفسق، وبينما هو غارق في لذائذه، وقعت واقعة نقلته من المجون إلى الشجون، ومن الخمر والقمر، إلى الغم والهم. 15
فهنا نذكر وقعة قتل أبيه، وهي وقعة قسمت حياته إلى مرحلتين، وأثرت على شعره تأثيرًا عميقًا.
أبوه حُجُر ملك غطفان وأسد، وأمه فاطمة بنت ربية أخت المهلهل، 16 وكان قباذ ملك فارس ملك الحرث بن عمرو جد امرئ القيس على العرب، ويقول أهل اليمن: أن تبعا الأخير ملكه، وكان الحرث ابن أخته، فلما هلك قباذ وملك أنوشروان ملك على الحيرة المنذر بن ماء السماء، وكانت عنده هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، فولدت له عمرو بن المنذر وقابوس ابن المنذر، وهند عمة امرئ القيس، ثم ملكت بنو أسد حجرًا عليها، فساءت سيرته، وظلمهم وأذلهم، ويذكر ابن قتيبة الدينوري عن سيادته فقال: وملّك حجر على بنى أسد، فكان يأخذ منهم شيئًا معلومًا، فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سرواتهم فقتلهم بالعصىّ، فسمّوا عبيد العصا، وأسر منهم طائفةً، فيهم عبيد بن الأبرص، فقام بين يدي الملك فقال:
عين ما فأبكى بني أسد هم أهل النّدامة
أنت المليك عليهم وهم العبيد إلى القيامة
رحمهم الملك وعفا عنهم وردّهم إلى بلادهم. 17 فقد علم منه أن أبا امرئ القيس كان جبارًا عنيدًا، ولم ترض راعيته بقيادته وسيادته، ولما كان رؤساء العرب يحبون مدحهم فيحافظون على أنفسهم وأموالهم وأقربائهم بمدحهم إياه.
كان أبوه سيد بني أسد، وبناءً على ذلك كان امرؤ القيس يعيش عيشة الملوك في رخاء وسراء، مرحًا فرحًا، غارقًا في لذائذ الدنيا، فأبوه وإن كان ساخطًا عليه بما يصنعه؛ لكنه لم يطرده ولا أجلاه من بيته، فكان في أسرته إذ مس كرامة أبيه وأسرته حيث هتك عرض امرأة نبيلة في أشعاره وكان عاشقًا لها، فاضطر أبوه إلى طرده من البيت، يذكر في هذا الصدد ابن قتيبة الدينوري: وكان امرؤ القيس طرده أبوه لما صنع فى الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقًا، فطلبها زمانًا فلم يصل إليها، وكان يطلب منها غرةً، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فقال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل... إلخ.
فلما بلغ ذلك حجرا أباه دعا مولى له يقال له ربيعة، فقال له: اقتل امرأ القيس وأتنى بعينيه، فذبح جوذرا فأتاه بعينيه، فندم حجر على ذلك، فقال: أبيت اللعن! إنى لم أقتله، قال: فأتنى به، فانطلق فإذا هو قد قال شعرًا في رأس جبل، وهو قوله:
فلا تتركنى يا ربيع لهذه … وكنت أرانى قبلها بك واثقا... إلخ.
فرده إلى أبيه، فنهاه عن قول الشعر، ثم إنه قال:
ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي... إلخ.
فبلغ ذلك أباه فطرده. 18 أنشد امرؤ القيس في هذه القصيدة 19 أشعارًا تشبب بعشيقته الأخرى سلمى رغم منع أبيه إياه، فتسببت هذه القصيدة لطرده من البيت.
لما طرده أبوه من البيت فازداد ترفًا وطربًا، فكان يسير في أحياء العرب، ومعه طائفة من شباب القبائل الأخرى، يجتمعون على الشراب والغناء عند روضة أو غدير، ويخرج هو للصيد فيصيد ويطعمهم من صيده، وظل كذلك حتى جاءه نعي أبيه وهو بدمون، فأثار في قلبه ضجةً غيرت حياته حتى ترك الملاهي والملاعب، فروي أن أباه لما أصبح ملكًا لبني أسد فضيق الخناق عليهم، وضاقوا صدرًا من تحمل شدائده ومصاعبه، حتى عزموا على قتله، وذات يوم مدحه أحدهم في أبيات ففرح بذلك وأطلق سراح أسراهم، فبدأوا بالسفر حتى تكهن كاهنهم كما رواه ابن قتيبة الدينوري: حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة، تكهنّ كاهنهم عوف بن ربيعة الأسدي، فقال: يا عباد قالوا: لبّيك ربّنا! فقال: والغلّاب غير المغلّب، فى الإبل كأنها الرّبرب، لا يقلق رأسه الصّخب، هذا دمه يثعب، وهو غدا أول من يسلب، قالوا: من هو ربّنا؟ قال: لولا تجيش نفس جايشه أنبأتكم أنّه حجر ضاحيه فركبت بنو أسد كلّ صعب وذلول، فما أشرق لهم الضّحى حتّى انتهوا إلى حجر، فوجدوه نائمًا فذبحوه، وشدّوا على هجائنه فاستاقوها. 20
وذكر الدكتور شوقي ضيف نقلًا عن الأصفهاني أربعة أقوال في قتل أبيه، وغايتها واحدة إلا أن أسباب قتله مختلفة، أحدها فيما يلي: أن حجرًا لما استجار عوير بن شجنة لبنيه وأهله تحول عن بني أسد، فأقام في عشيرته كندة مدة، وجمع لبني أسد منهم جمعا عظيما، وأقبل مدلًّا بمن معه من الجنود، فتآمرت بنو أسد بينها، وقالوا: واللّٰه لئن قهركم هذا ليحكمن عليكم حكم الصبي! وما خير عيش يكون بعد قهر، وأنتم بحمد اللّٰه أشدّ العرب، فموتوا كراما فساروا إلى حجر وقد ارتحل نحوهم فلقوه، فاقتتلوا قتالا عنيفا، وكان صاحب أمرهم علباء بن الحارث فحمل على حجر فطعنه، فقتله، وانهزمت كندة وفيهم يومئذ امرؤ القيس بن حجر، فهرب على فرس له شقراء، وأعجزهم، وقد قتلوا من أهل بيته طائفة وأسروا أخرى وملأوا أيديهم من الغنائم، وأخذوا جواري حجر ونساءه وكل ما كان معه من أموال، واقتسموا ذلك جميعه. 21
ويقول ابن قتيبة الدينوري: ثم ملّكت بنو أسد حجرًا عليها، فساءت سيرته، فجمّعت له بنو أسد، واستعان حجر ببني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم... فبعثت بنو أسد إلى بني حنظلة تستكفّها وتسألها أن تخلي بينها وبين كندة، فاعتزلت بنو حنظلة، والتقت كندة وأسد، فانهزمت كندة وقتل حجر، وغنمت بنو أسد أموالهم... وكان قاتل حجر علباء بن الحرث الأسدي، وأفْلتَ امرؤ القيس يومئذ، وحلف لا يغسل رأسه ولا يشرب خمرا حتّى يدرك ثأره ببني أسد. 22
على كل حال من المحتوم أن هذه هي الوقعة التي أثرت حياة امرئ القيس، فعزم على الأخذ بثأر أبيه عزمًا مصممًا، وترك كل ما كان غارقًا فيه من الملذات والملهيات والشهوات، كما صرح عليه عبد الرحمن المصطاوي: فعندما وصله خبر أبيه قال: ضيعني صغيرًا، وحملني دمه كبيرًا لا صحو اليوم، ولا سكر غدًا. اليوم خمر وغدًا أمر. فآلى ألا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن، ولا يصيب امرأةً، حتى يدرك ثأره. 23
فهذا الحادث المفاجئ آلمه وأفجعه شديدًا، وترك على قلبه أثرًا بليغًا؛ لأنه كان مطرودًا من البيت حزينًا على فراقه، فانقلبت حياته من ناحية الشعر والأدب والطرب إلى الثأر والضرب والحرب.
قبل أن أكد عزمه على أخذ الثأر استقسم- طبق عرف العرب- في قتال بني أسد، فخرج الناهي، أي: على خلاف ما أراده كما يوضحه ابن عساكر نقلًا عن ابن الكلبي أنه قال: لما أقبل امرؤ القيس بن حجر يريد بني أسد ثائرًا بأبيه وكان مرثد بن علس بن ذي جدن ملك جهينة قد أمده بخمس مئة رجل من حمير رماة فسار حتى مر بتبالة وبها ذو الخلصة، وكانت العرب كلها تعظمه، فدخل امرؤ القيس عليه وعنده قداح ثلاثة، الآمر والناهي والمتربص يستقسم في قتال بني أسد، فخرج الناهي فأعاد فخرج الناهي، فكسر الأقداح وضرب به وجه ذي الخلصة، وقال: عضضت بأير أبيك لو كان أبوك المقتول لما عرفتني، ثم أغار على بني أسد قتلهم قتلًا ذريعًا فلم يستقم عند ذي الخلصة. 24
وقبل ذلك كان امرؤ القيس استدعى بكر بن وائل أن تحالفه على بني أسد، فنصرته بجيش قوي مقاتل كما قال ابن قتيبة: استجاش بكر بن وائل فسار إليهم وقد لجؤوا إلى كنانة، فأوقع بهم. 25 وحاولت قبيلة أسد أن تترضاه، فلم يرض، 26 يوضحه الدكتور شوقي ضيف بقوله: ويظهر أن بني أسد خافوا العاقبة، فأرسلوا إليه- في رواية للخليل بن أحمد- وفدًا للمفاوضة، وعرض عليه الوفد إحدى ثلاث: القصاص أو الفداء أو النّظرة (الإمهال) حتى تضع الحوامل، فتعقد الرايات وتكون الحرب، فقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، وإني لن أعتاض به جملًا أو ناقةً، فأكتسب بذلك سبّة الأبد، وفتّ العضد، وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنّة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنَقًا وفوق الأسنة علَقًا (دمًا) ورويدًا ينكشف لكم دُجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، فنهضوا عنه، وقد عرفوا أنه طالبهم. 27
فلم يمتنع ولم يتخلف عن عزمه المصمم رغم خروج الناهي في الاستقسام، ولما بلغ بني أسد أنه أراد القتال فغادروا من ذلك المكان إلى مكان آخر، يقول ابن قتيبة الدينوري: وبلغ الخبر بني أسد فانتقلوا عن منازلهم، فنزلوا على قوم من بني كنانة بن خزيمة، 28 فاختلطوا بهم وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد فوضع السلاح فيهم، فأعلموا أنهم ليسوا طلبته، وكان بنو أسد قد عرفوا قدومه بمن معه، فرحلوا، فتبعهم حتى لحقهم وقاتلهم، حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم. 29 فقاتلهم قتالًا شديدًا، وهرب بنو أسد فاستنصر بمقاتلين آخرين كما قال الدكتور عبد الرحمن المصطاوي: فلبس امرؤ القيس لامة الحرب، وحاولت قبيلة أسد أن تترضاه، فلم يرضَ، فقاتلهم حتى كثرت الجراح والقتلى فيهم، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، ولم تشف هذه المقتلة غلّ امرئ القيس، واستنصر بقَيْل يُدعى مرثد الخير بني جَدن الحميري، فنصره وأمّده بخمسمائة رجل من حِمير، ولكن هذا المدد لم يحقق النصر لامرئ القيس، فاضطر امرؤ القيس إلى التجول من أمير إلى أمير، وإلى تجرع الغصص غصّة بعد غصّة، فترك ماله وأسلحته لدى السموأل بن عادياء، ويممّ شطر قيصر. 30 فأحسن قيصر وفادته، لكنّه لم يعنه على استرداد ملكه.
استنصر امرؤ القيس بقيصر، فقدم إليه خطة حربه النهاية لإتمام الأمر، ولما كما ذكره ابن قتيبة الدينوري: ولم يزل يسير في العرب يطلب النصر، حتّى خرج إلى قيصر... ونظرت إليه ابنة قيصر فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وطبن الطّمّاح بن قيس الأسدي لهما، وكان حجر قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرّعا. 31
كان امرؤ القيس مترفًا فاجرًا، وإضافةً إلى ذلك كان وجيهًا جميلًا، بليغ الكلام فصيح اللسان، فيقضي أوطاره وشهواته بلا صعوبة، فرجع من عند قيصر إلى بني أسد انتقامًا منهم.
خرج من عند قيصر مع جيشه المسلح إلى بني أسد، فحدثت واقعة غريبة عجيبة، ينقلها الدكتور شوقي ضيف: انتهى إلى قيصر في القسطنطينية، وهو حينئذ جوستنيان فأكرمه ورفع منزلته، وضم إليه جيشًا كثيفًا، ولما فصل اندسّ إلى جوستنيان رجل من بني أسد يقال له: الطماح، فقال له: إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارًا يشهّرها بها في العرب، فيفضحها ويفضحك فبعث إليه القيصر حينئذ بحلّة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إنى أرسلت إليك بحلتي التى كنت ألبسها تكرمةً لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل، فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمّي ذا القروح. 32
هكذا مضت حياته بعد موت أبيه في أخذ ثأره وقصاصه وإن لم ينجح فيه، فمات قبل أن يأخذ بالثأر من بني أسد.
كان امرؤ القيس أعظم شعراء عصره، وكانت قصيدته المعلقة في طليعة المعلقات السبعة، يقول عنها ابن كثير: امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات، وهي أفخرهن وأشهرهن التي أولها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل 33
لم ير مثله في الشعر العربي، إنه كان في الحقيقة رئيس الشعراء في عهد الجاهلية، وقد ورد ذكره في الحديث النبوي الشريف على صاحبه ألف تحيات وتسليمات، أخرجه ابن عساكر: عن ابن الكلبي أن قومًا أتوا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم فسألوه عن أشعر الناس فقال: ائتوا ابن الفريعة يعني حسان، فأتوه، فقال: ذو القروح يعني امرأ القيس، فرجعوا فأخبروا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم فقال: ((صدق رفيع في الدنيا خامل في الآخرة شريف في الدنيا وضيع في الآخرة، هو قائد الشعراء إلى النار)) 34
وذات يوم أتى وفد إلى الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وذكروا امرأ القيس وشعره فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم مثله كما رواه ابن كثير في البداية والنهاية: عن معديكرب عن أبيه عن جده قال: بينا نحن عند رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا: يا رسول اللّٰه! لقد أحيانا اللّٰه ببيتين من شعر امرئ القيس قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق، أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثًا لا نقدر على الماء فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجرة فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد؟ قال: قلنا: امرؤ القيس بن حجر قال: واللّٰه ما كذب! هذا ضارج عندكم فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعًا فحبونا إليه على الركب فاذا هو كما قال امرؤ القيس: عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم: ((ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار)) 35
وبناءً ما قاله الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم يذكر السيد محمود شكري الآلوسي: هو أمیر الشعراء بشهادة خیر الأنبیاء وسید الفصحاء صلوات اللّٰه وسلامه علیه؛ وذلك أنه ذكر عنده یوما فقال صلى اللّٰه عليه وسلم:((ذاك رجل مذكور في الدنیا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا، خامل في الآخرة، یجئي یوم القیامة معه لواء الشعراء یقودهم إلی النار)) 35
ولا شك أنه كان مصداق ما قال الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم فيه؛ لتورطه في الشرك وتوغله في الفسق، وانهماكه في الذنوب وانغماسه في الفجور؛ لكنه اشتهر وأثنى عليه الناس؛ لكماله في فن الشعر، كما ذهب إليه عبد الرحمن المصطاوي: هو من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، وهم زهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، والأعشى ميمون، وامرؤ القيس، ثم اختلفوا في تقديم أحدهم على طبقته، وفضّل كثير من الأدباء شاعرنا أكثر من الذين فضلوا سواه، ومن هؤلاء الأدباء ابن رشيق القيرواني الذي يقول: ولكل واحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقلما يجتمع على واحد إلا ما روي عن النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم في امرئ القيس: أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار، ويروى أن عليا كرم اللّٰه وجهه فضله على شعراء الجاهلية؛ لأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة، وأيضًا عمر بن الخطاب رضي اللّٰه تعالى عنه والفرزدق، وابن سلّام الجحمي صاحب كتاب طبقات (فحولة الشعراء) كلهم شهدوا له بالسبق. 37
وقد فاق أقرانه بابتكاره في فنون شعرية، وأسلوب إيجابي متحلي بالبلاغة والفصاحة؛ فإن شعره يتميز عن الشعراء الآخرين بالأدب البلاغي والكمال الشعري، والدليل على ذلك أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش فإن أجازوها علقوها على الكعبة؛ تعظيمًا لشأنها، فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع، فالأولى لامرئ القيس بن حجر الكندي. 38
إن شعر امرئ القيس متنوع إلى أسلوبين كما أن حياته منقسمة إلى مرحلتين، فأسلوبه الأول يحتوي على الزينة والجمال، والمناظر البهية، والحب والعشق، والوصال والفراق وغيرها من محتويات رائعة، وأما أسلوبه الثاني فقد تغاير عن الأول تمامًا، فهو إن كانت فيه المحتويات الأولى إلا أنها مغلوبة بالحزن والتذمر كما يظهر من اقتباس تال: كان شعر امرئ القيس في المرحلة الأولى من حياته غزلًا ووصفًا لمجالس الأنس والخمر، والحصان رفيقه في الصيد، ومطيته في ميادين القتال، وفي المرحلة الثانية غلب على شعره المدح والهجاء والفخر بالملك القديم ووصف الناقة وسيلته في قطع الفلوات ومن حيث العواطف، كان شعره في المرحلة الأولى يتّفجر حيوية وتفاؤلاً وزهواً، واعتزازاً، فلما فُجع بأبيه، غرق في الشكوى والحزن والتذمّر من غدْر الناس والزمان وفي الأسلوب كانت ألفاظ الشاعر في المرحلة الأولى أقرب إلى العذوبة والوضوح، والانسياب، ولم يفارق أسلوبه هذه الخصائص في المرحلة الثانية لكن ألفاظه شابها المقت، وخالطتها الكآبة. 39
كان بالغًا في كلا الأسلوبين ذروة الكمال؛ فإن قريحته الفطرية وخبرته الشعرية قربت شعره إلى الحقيقة الواقعة، وبناءً على طبيعته الرائعة المتينة ذكر أفكاره الرائقة والزينة الرائعة في أشعاره بأحسن أسلوب وأجود، وقد تمهر في الفنون الشعرية والاصطناعية حتى عد موجدًا لعدة فنون أدبية بأسلوب جديد، ويقول في هذا الصدد ابن قتيبة الدينوري: وقد سبق امرؤ القيس إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتّبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ. 40
فهو أول من أجاد القول في استيقاف الصحب، وبكاء الديار، وتشبيه النساء بالظباء والمها والبيض، وفي وصف الخيل بقيد الأوابد وترقيق النسيب، وتقريب مآخذ الكلام، وتجويد الاستعارة، وتنويع التشبيه، وذلك لسعة خياله بكثرة رحلاته، وقد يفحش في تشبيه بالنساء وتحدثه عنهن، ويشتم من شعره رائحة النبل وتلمح فيه شارات السيادة والملك، 41 ومن ثم حصلت المرتبة الأولى لمعلقته التي طليعتها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها وكأنها حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحى ناقف حنظل
وقوفًا بها صحبى على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل42
ومنها أبيات تالية:
ألا قبح اللّٰه البراجم كلها وجدع یربوعا وعز دارما 43
واللّٰه أنجح ما طلبت به والبرّ خير حقيبة الرّحل 44
تلک السحاب اذاالرحمن انشاها ردى بها من محول الارض ایباسا 45
تلک الموازین والرحمن ارسلها رب البربة بین الناس مقیاسا 46
هذه أبيات من قصيدة الشاعر الذي كان في قمة الشعراء، والدليل البين على سمعته الذائعة أن شعره يعبر عن أفكار العرب الخالصة ومفاهيمها الواضحة وعن الفطرة الإنسانية والرغبات الشهوانية، وقد عبر في هذه القصيدة عن كآبة أصابته بفراق عشيقته، وإضافةً إلى ذلك إن هذه المعلقة تشتمل على فنون الشعر التي ابتكرها امرؤ القيس كالبكاء على باب العشيقة وغير ذلك من فنون مندرجة في هذه المعلقة التي كلها نماذج نادرة للأدب العربي.
إن امرأ القيس يفوق أقرانه في طموحه الفكري وقوته الخيالية، فيقول أبو منصور الثعالبي في هذا المجال: من عجيب شأنه أنه قال في الجاهلية ما جاء فيه شرائط أهل الجنة وأوصافها، وإن كان لم يعرفها ولم يؤمن بها حيث قال:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
فذكر السعادة التي هي جامعة خير الدارين، ثم الخلود الذي هو أحسن أحوال أهل الجنة، ثم ذكر قلة الهموم التي هي أجل الرغائب، ثم أشار إلى الأمن وهو أنفس المواهب. 47
فقد كان الشعر راسخًا في نفسه متغلغلًا في قلبه حتى أنشد الشعر عند لبس الجبة المسمومة وارتحاله من عالم الفناء إلى عالم البقاء كما ذكره ابن الأثير الجزري: رب خطبة مسحنفرة، وطعنة مثعنجرة، وجفنة متحيرة، حلت بأرض أنقرة. 48
وقد أوضح ابن قتيبة الدينوري نقلًا عن ابن الكلبي أنه قال: هذا آخر شيء تكلم به، 49 فأسرع السم في بدنه وسقط جلده، ورأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فأنشد شعرًا، ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك. 50
ملخص المقال في هذا المجال أن شعر امرئ القيس ما زال يعتبر في غاية الكمال وسمو الفكر، ولا يزال المتأخرون من الشعراء يحذون حذوه في القصائد والأشعار، وأثنى عليه العرب كلهم متقدمين ومتأخرين من أنه كان شاعرًا بليغ البيان فصيح اللسان، وله أسلوب شعري رائع، وسمو الفكر ودقة النظر، وذلك دليل على كماله التام في فن الشعر، فأصبح محظوظًا بالرئاسة والإمارة في الشعر والشعراء في الدنيا وأصبح قائدهم إلى النار في الأخرى، فإن أصل الفلاح والنجاح ليس هو المهارة والبراعة في الفن والأدب، بل مداره على الإيمان بوحدانية اللّٰه ورسالة رسوله صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وإجبار وإقناع النفس على ما جاء به الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وحرم امرؤ القيس من ذلك.