إن العرب مقسمون عند المؤرخين إلى سلالات ينحدرون منها، العرب البائدة، ثم العرب العاربة، ثم العرب المستعربة، 1 فهؤلاء وغيرهم من أقوام منحدرة من سلالة نوح عليه السلام كانوا قومًا عربًا لسانهم عربي، 2 واللسان العربي كان في أوج الكمال في عهد الجاهلية قبل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، والعرب يفتخرون بفصاحة لغتهم، وكانوا معجبين بها إلى غاية يطلقون على أقوام أخرى بـ"العجم"، أي: خُرس لاينطقون، أما شعرائهم فكانوا فائزين بمكانة أرقى ومنزلة أرفع من عامة الناس بكثير، وذلك بسبب شغفهم بالشعر وتأهلهم لذلك، فالمقام الذي يحوزه فن التمثيل والممثلون الفنانون في زماننا هذا كان قد ناله فن الشعر والشعراء؛ فإن الشعر آنذاك أسرع وسيلة لإبلاغ الرسائل والأخبار كالتواصل الاجتماعي اليوم بما أنه يمثل دورًا بارزًا في إبلاغ الرسالات ونشر المقالات بسرعة فائقة، وللشاعر في المجتمع العربي شرف كبير وفضل عظيم لا يمكن لكل أحد أن يتشرف به، فإن الشاعر يحيط في وقت واحد بطلاقة اللسان، والفصاحة، والبلاغة، والعلم العميق، والفكر الدقيق، والنظر السديد، والخبرة، والمشاهدة، والمطالعة، والأحاسيس المدركة التي لايتحصل عليها إلا نبذة من الرجال.
كان العرب يعيشون عيشة البداوة، وذريتهم ينشأون ويترعرعون في حضانة الفطرة الطبيعية مع كل حرية، ولو صور موطنهم وعيشهم لظهر أن أنهارهم في صحراء شاسعة واسعة، وأشعة شمس محرقة، وعواصف رملية شديدة، ولياليهم مكفهرة مقمرة، في قمر منير، ونجوم متلألأة، وصبحهم في هواء نقي وجو صفي، ومسائهم في هدوء وطمأنينة، يعيشون بين الفرس، والحمير، والأبقار، والبغال، والآبال، والغزال، وغيرها من وحوش وطيور فرحين مرحين.
وكل هذه الأشياء كانت متاعًا لأفكارهم وأنظارهم، وشاعرهم يعبر في أشعاره وأبياته أحاسيسه وعواطفه عن بيئته الطبيعية، فما وصل إلينا من التراث الجاهلي شعرًا وأدبًا هو نموذج أروع وأجمل للسان والبيان مع نظير ومثل كبير للحياة البدوية العربية.
ليس من السهل تعريف الشعر، فقد كثرت المحاولات؛ ولكنها لم تفض إلى نتيجة ملموسة، ذلك أن الشعر لغة العواطف والمشاعر والرؤى الممتزجة بالمواقف والأفكار، ويقول الفيومي في حد الشعر: والشعر العربي هو النظم الموزون، وحدّه ما تركب تركبًا متعاضدًا وكان مقفى موزونًا مقصودًا به ذلك، فما خلا من هذه القيود أو من بعضها فلا يسمى شعرًا ولا يسمى قائله شاعرًا، ولهذا ما ورد في الكتاب أو السنّة موزونًا فليس بشعر. 3
كذلك يصرح علي الجندي في كتابه "تاريخ الأدب الجاهلي" على حد الشعر حيث قال: الشعر لغة العواطف، وترجمان الأحاسيس، ويعنى بإظهار الجمال، وتصويره في صور تسحر القلوب، وتثير الوجدان، وتبعث في النفس الإعجاب والارتياح؛ ولذلك عد من الآداب الرفيعة، واعتبر فنًّا من الفنون الجميل، وقد عرف العرب منذ أقدم عصورهم قيمة الشعر وأثره في النفس، وما له من شأن عظيم في تاريخ الأمم والشعوب، بإظهار مواهبها، وسمو عواطفها، ورقة مشاعرها وتخليد أمجادها ومفاخرها فقدروا الشعر حق قدره، وعظموا الشعراء وأكبروهم فكان للشاعر أعلى منزلة في قومه. 4
وهذه المنزلة جعلت شعراء العرب أفضل طبقاتهم وأهمها كما لعبت دورًا هامًا في إنباء الشعراء عن شتى نواحي الفكر والنظر.
نطلع في أوراق التاريخ على أن كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج، 5 ويوضح عبد الكريم النهشلي مكانة الشاعر عند العرب في كتابه "الممتع في صنعة الشعر" فقال: الشاعر عند العرب أفضل من الخطيب، وكان الشاعر في الجاهلية إذا نبغ في قبيلة ركبت العرب إليها فهنأتها به. 6 ويقول صاحب "جواهر الأدب" عن منزلة الشاعر عند العرب: وكان للشعراء عند العرب منزلةً رفيعةً، وحكم نافذ وسلطان غالب، إذ كانوا ألسنتهم الناطقة بمكارمهم ومفاخرهم، وأسلحتهم التي يذودون بها عن حياض شرفهم ... وتخليد لمفاخرهم". 7
فاتضح من التفاصيل أن السبب الأساسي لمكانة الشعراء وأشعارهم وأبياتهم وقصائدهم عند العرب هو أنهم كانوا يذودون في أشعارهم وقصائدهم عن قبائلهم وأقوامهم، ويبينون فيها خصائلها الحميدة وفضائلها الجميلة، ويعظمونها ويوقرونها فيها، وكل هذه الأمور يتفاخر بها العرب ويتنافسون فيها، فكل قبيلة من قبائل العرب توقر شاعرهم وتحترمه احترامًا بالغًا ويعدون حكمه سلطانًا وقوله برهانًا.
لقد اكتسب سمعةً في العصر الجاهلي أكثر من مئة وعشرين شاعرًا إلا أن أشعارهم وقصائدهم ضاعت بسبب ما، وتلوح في الأشعار الجاهلية أصناف اصطناعية تالية:
(1) الافتخار والحماسة (2) الوصف (3) المدح (4) الهجاء
(5) الرثاء (6) الغزل (7) الاعتذار (8) الحِكم والأمثال
وجميع الشعراء مهيعهم شكوى الليل وطوله والتوجع لرعي النجوم ووصف الليل والنجوم، 8 وكل انفرد بمهيع متفرد كالفخر والخمر، ووصف الحرب والشعر والخيل والإعسار والفلوات والهواجر والقسي والنبل، والتشبيه وصفات الربيع وطيف الخيال والبديع والرثاء والقناعة والزهد والهجو والحكم والمدح والأمثال والدرع والنسب كما تشير معلقاتهم إلى الأوصاف البدوية العالية، والخلق العربية السامية، والأغراض الزكية والمقاصد الطيبة، والوعظ والنصح، وأحوال فراق الحبائب ووصال الشقائق، وأحوال الحروب الدامية، وشعراء الجاهلية كانوا يأتون في أشعارهم بألفاظ بليغة فصيحة، وأشعارهم في الأغلب مبينة لخيال بسيط ومتحلية بكلمات رائعة وإن لم تدل على عمق في الأفكار وندرة وسمو في الأنظار، أما المبالغة والاستعارة والتشبيهات الدقيقة والمعاني الفلسفية فنادر وقوعها في أشعارهم وقصائدهم، ولهم في شعرهم أساليب منفردة ممتازة، وقد غبر الناس دهرًا طويلًا لايقولون الشعر إلا في الأغراض الشريفة، لا يمدحون عظيمًا طعمًا في نواله، ولايهجون شريفًا تشفيًا منه وانتقامًا حتى نشأت فيهم فئة امتهنت الشعر وتكسبت به، ومدحت الملوك والأمراء كالنابغة الذبياني وحسان مع النعمان بن المنذر وملوك غسان، 9 وككتاب الحماسة الذي اختاره ملك الكلام أبو تمام. 10
طبقات الشعراء أربع: جاهلي قديم، ومخضرم...، وإسلامي، ومحدث. 11
هم شعراء أدركوا الجاهلية وماتوا عليها، فكل من كان في عصر الجاهلية هو من الطبقة الجاهلية ورأسها امرؤ القيس. 12
وهم الذين اشتهروا بقول الشعر في الجاهلية والإسلام، 13 ورأسهم حسان بن ثابت رضي اللّٰه عنه. 14
وهم الذين نشؤوا في الإسلام ولم تفسد سليقتهم العربية، 15 وهي الطبقة الإسلامية ورأسها جرير. 16
وأما المحدثون فهم الذين نشؤوا زمن فساد العربية وامتزاج العرب بالعجم، 17 وشعراء الأندلس طبقة واحدة، 18 وقد ذكر عبد القادر البغدادي نقلا عن ابن رشيق أنه عدّ في "العمدة" طبقات الشعراء أربعا، قال: هم جاهلي قديم ومخضرم وإسلامي ومحدث... وجعل الطبقات بعضهم ستا، وقال: الرابعة المولدون وهم من بعد المتقدمين... والخامسة المحدثون وهم من بعدهم... والسادسة المتأخرون وهم من بعدهم. 19
وقد جعل مصطفى صادق الرافعي شعراء العرب في أربع طبقات، جاهلي قديم، ومخضرم، وإسلامي، ومحدث مولد، فقال: وأشهر المخضرمين من لبيد، وحسان، والحطيئة، والنابغة الجعدي، والخنساء، ثم شعراء الجاهلية عند بعض العلماء ثلاث طبقات، يعدون في الأولى: أصحاب السبع الطوال على المشهور، والنابغة وأعشى قيس، والمهلهل، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وفي الطبقة الثانية: الشنفري، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرًا، والسموأل بن عادياء، وعلقمة الفحل، والحارث بن عباد، وخداش بن زهير، وعروة بن الورد، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي، وأوس بن حجر، ودريد بن الصمة، والخنساء؛ ولا يعدون من الطبقة الثالثة غير لقيط بن زرارة، وهذا التحديد يسقط كثيرًا من شعراء الجاهلية وشواعرهم... أما المحدثون فلم يسقط من مشاهيرهم أحد، وقد وضعت لهم كتب التراجم في عصورهم المختلفة إلى اليوم. 20
وذكر أحمد بن إبراهيم الهاشمي أن الشعراء الجاهليين منقسمون- من حيث كثرة شعرهم وجودتهم- إلى ثلاث طبقات، فقال: والشعراء الجاهليون يقسمون باعتبار شهرتهم في الشعر للإجادة أو للكثرة إلى طبقات كثيرة نذكر منها ثلاثًا: الطبقة الأولى: امرؤ القيس بن حجر، وعمرو ابن كلثوم، وزهير بن أبي سلمى، والنابغة الذبياني، الطبقة الثانية: الأعشى، ولبيد بن ربيعة العامري، وطرفة بن العبد، الطبقة الثالثة: عنترة ابن شداد، وعروة بن الورد، والنمر بن تولب، ودريد بن الصمة، والمرقش الأكبر، والحارث ابن حلزة اليشكري. 21
والغرض الأوفر من ذكر هذه الطبقات أن تتضح طبقات الشعراء الجاهليين وضوحًا كاملًا، فنذكر في السطور الآتية تراجمهم باختصار وإيجاز.
كان للشعراء في زمن الجاهلية مجال واسع في الشعر وأغراضه وفنونه، فمن جملة أغراض شعرهم الغزل والمديح، والرثاء والهجاء والاعتذار والوصف والرجز والقصيدة والتشبيب والحَدْو، ونذكر بعض تفاصيلها فيما يلي:
الغزل: هو الاشتهار بمودة النساء، وتتبعهن، والحديث إليهن، والعبث بذلك في الكلام، وإن لم يتعلق القائل منهن بهوى أو صبابة. 22
الفخر: الفخر هو التغني بالأمجاد، ويكون عادةً بادعاء أشياء للنفس أو للقبيلة ليست في متناول الجميع بيسر وسهولة. 23
المدح: المدح إشادة بعظيم، أو إعجابًا وإكبارًا لعمل جليل، أو اعترافًا بصنع جميل، أو رغبةً في معروف، أو حبًا في العطايا والمنح. 24
الرثاء: الشعراء يرثون أقربائهم عندما يفقدونهم، فالرثاء هو الأسى العميق الذي عمهم، والخسارة الفادحة التي نزلت بهم وبغيرهم ممن كان الفقيد ملاذًا لهم. 25
الهجاء: كان الهجاء على عكس الفخر، يعددون فيه عيوب الخصوم والأعداء، فيذكرون ما في تاريخهم من مخاز، وما نزل بهم من هزائم، وما حل بهم من خسائر أو عار، ويرمونهم بأقبح العادات، وذميم الصفات، وكثيرًا ما كان يتخلل هجاءهم وعيد وتهديد. 26
الاعتذار: يأتي عادة لإظهار الندم على فعل حدث، أو حال وقعت، ويريد المعتذر أن يبرئ نفسه؛ لينجو من اللوم، أو يحاول إصلاح الحال، بتفسير أو شرح معقول لها. 27
الوصف: الوصف هو التصوير الحسي الذي يراد منه إدراك الموصوف بإحدى الحواس. 28
الرجز: الرجز هو أنشودة حربية، ومنه قول النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في غزوة حنين حين نزل عن بغلته واستنصر: أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب. 29
القصيدة: هي مجموعة من الأبيات الشعرية متحدة في الوزن والقافية والروي وهي تتكون من سبعة أبيات فأكثر. 30
التشبيب: التغزل بذكر محاسن المرأة. 31
الحدو: سوق الإبل والغناء لها. 32
فشعراء الجاهلية كانوا ينشدون أشعارهم لأغراض أخرى أيضًا، نذكر بعضها في النصوص التالية:
ورد في ديوان المعاني: إنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح والهجاء والوصف والتشبب والمراثي حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار فأحسن فيه. 33
وحصرها أبو تمام- وهو نفسه من مشاهير الشعراء في الإسلام- في عشرة أبواب: هي: الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب (النسيب)، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. 34
وجعلها غيره: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح... وحصرها ابن رشيق في النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والإنذار، 35 ويدخل فى الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء 36 والتأنيب. 37
فلو قلبنا صفحات تاريخ العصر الجاهلي بحثًا عن شعراءه لرأينا لوجدنا فيه شعراء أجلةً سلاطين الفصاحة وأساطين البلاغة، أشعارهم بينة بليغة من حيث الألفاظ والمعاني والأغراض الأدبية والفنون الشعرية، فمن المخضرمين لبيد، وحسان، وحطيئة، والنابغة الجعدي، والخنساء، ومن الجاهليين النابغة الذبياني، والأعشى قيس، والمهلهل، عدي بن زيد، وعبيد بن أبرص، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهم، وكانت منهم طائفة فائقة ممتازة من شعراء العرب، وهم "أصحاب المعلقات"، الذين علقت قصائدهم على بيت اللّٰه المشرف.
كان من دأب العرب أن يأتون إلى أسواق تقوم على مدار سنوي، ومن هذه الأسواق عكاظ ومجنة وذو المجاز، وأهمها سوق عكاظ، وكان يجتمع بهذه السوق أكثر أشراف العرب للمتاجرة، ومفاداة الأسرى والتحكيم في الخصومات، وللمفاخرة بالشعر والخطب في الحسب والنسب والكرم والفصاحة والجمال والشجاعة وما شاكل ذلك، وكان من أشهر المحكمين بها في الشعر النابغة الذبياني، 38 فالشعراء يساهمون في مضمار الشعر ويسابقون فيه، فمن كان منهم يحرز المركز الأول بقرار المحكمين فتكتب قصيدته بماء الذهب وتعلق على جدار الكعبة المشرفة، وتطلق على هذه القصيدة عليها بـ"المعلقة"، وقد ساهم في هذه المسابقة كثير من شعراء الجاهلية وأنشدوا قصائدهم إلا أن ما علقت منها على جدار الكعبة الشريفة بإحرازها الشرف الأول في هذه المسابقات السنوية هي "سبع معلقات"، وإنها نماذج حقيقية من الحيوية الجاهلية، فنقصد في الفصول القادمة ذكر شعراء المعلقات السبعة وغيرهم الذين كانوا من أفضل الشعراء وشعرهم أجود الأشعار لدى العرب، مثل امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد العبسي، والأعشى قيس، وطرفة بن العبد، وعمرو بن كلثوم، ولبيد بن ربيعة، وغيرهم من كبار الشعراء، فنذكر هنا ترجمة النابغة الذبياني، والأعشى قيس، وجرير بن عبد العزى، وجرير بن عطية، والمغيرة بن الحارث، وعبد اللّٰه بن الزبعرى، وحماد الراوية، ودريد بن الصمة، وأما شعراء المعلقات السبعة فنبسط الكلام عنهم في فصول خاصة.
النابغة اسمه زياد بن معاوية، وينتهي نسبه إلى سعد بن ذبيان بن بغيض، وكنيته أبو أمامة وأبو عقرب بابنتين كانتا له، وهو أحد شعراء الجاهلية وأحد فحولهم، 39 وزعيمهم بعكاظ وأحسنهم ديباجة لفظ، وجلاء معنى، ولطف اعتذار- ولقّب بالنابغة؛ لنبوغه في الشعر فجأة وهو كبير، بعد أن امتنع عليه وهو صغير- وهو من أشراف ذبيان إلا أن تكسبه بالشعر غض قليلًا من شرفه، على أنه لم يتكسب بشعره إلا في مدح ملوك العرب، وكان من أمره في ذلك أنه اتصل بملوك الحيرة ومدحهم وطالت صحبته للنعمان بن المنذر، 40 قال الأصمعي: سألت بشارًا عن أشعر الناس فقال: أجمع أهل البصرة على امرئ القيس وطرفة، وأهل الكوفة على بشر بن أبي خازم والأعشى، وأهل الحجاز على النابغة وزهير، وأهل الشام على جرير والفرزدق والأخطل، ومات النابغة في الجاهلية في زمن النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم قبل أن يبعث. 41
كان الأعشى جاهليًا قديمًا، وأدرك الإسلام في آخر عمره ورحل إلى النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم في صلح الحديبة؛ لكنه لم يسلم، 42 اسمه أبو نصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل القيسي... وقد أعد لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم قصيدة يمدحه بها، وقصده بالحجاز، فلقيه كفار قريش وصدوه عن وجهه، 43 فأخذه أبو سفيان إلى منزله وجمع عليه أصحابه وقال: يا معشر قريش! هذا أعشى قيس، ولئن وصل إلى محمد ليضربن عليكم العرب قاطبةً، فجمعوا له مائة ناقة حمراء فانصرف، فلما صار بناحية اليمامة ألقاه بعيره فقتله. 44
جرير كان اسم شاعرين في زمن الجاهلية أحدهما جرير بن عطية، والآخر جرير بن عبد العزى، وهو جرير بن عبد العزي- أو عبد المسيح- من بني ضبيعة، من ربيعة: شاعر جاهلي، من أهل البحرين، وهو خال طرفة بن العبد، كان ينادم عمرو بن هند ملك العراق، ثم هجاه، فأراد عمرو قتله ففر إلى الشام، ولحق بآل جفنة (ملوكها) ومات ببصرى من أعمال حوران في سورية. 45
جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي، من تميم، أشعر أهل عصره، ولد ومات في اليمامة، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم- وكان هجاءًا مرًّا - فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل، 46 وقد اجتمع جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك، فأحضر بين يديه كيسًا فيه خمس مائة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتًا في مدح نفسه فأيكم غلب فله الكيس، فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى … وفي القطران لجربى شفاء
فقال الأخطل: فإن تك زق زاملة فإني … أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير: أنا الموت الذي آتي عليكم … فليس لهارب مني نجاه
فقال: خذ الكيس فلعمري إن الموت يأتي على كل شيء 47
من شعراء العرب المشهورين مغيرة بن الحارث، ابن عم رسول اللّٰه- صلى اللّٰه عليه وآله وسلم- يقول القاضي سليمان المنصورفوري: وكان أخًا لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم من الرضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية، وكان من شعراء العرب المشهورين. 48 وقد روي فيه أنه كانت له قرابتان مع الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، الأولى الرضاعة، والثانية كونه ابن عمه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، كان من أشهر الشعراء في عصره.
عبد اللّٰه بن الزبعرى كان من أشهر شعرائهم إلا أنه كان من أعداء الإسلام ولرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم من ألد الخصام، يقول حسين البكري عنه: كان من شعراء العرب، وكان يهجو أصحاب النبىّ صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، ويحرض المشركين على قتالهم، ويوم الفتح لما سمع أنّ النبىّ صلى اللّٰه عليه وآله وسلم أهدر دمه هرب إلى نجران وسكنها، وبعد مدّة وقع الإسلام في قلبه فأتى النبيّ صلى اللّٰه عليه وآله وسلم فلمَّا رآه من بعيدٍ، قال: هذا ابن الزبعرى! ولما دنا منه قال: السلام عليك يا رسول اللّٰه أشهد أن لا اله الا اللّٰه وأشهد أنك رسول اللّٰه. 49
كان من أعظم شعراء العرب، احتل من الشعر مكانةً مرموقةً، من أعداء الإسلام في أول وهلة كما يظهر من هذا الخبر التالي: لما بلغ رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم أن كعب بن زهير بن أبي سلمى هجاه ونال منه، أهدر دمه، فكتب إليه أخوه بجير بن زهير، وكان قد أسلم وحسن إسلامه يعلمه أن النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم قد قتل بالمدينة كعب بن الأشرف، وكان قد شبب بأم الفضل بن العباس وأم حكيم بنت عبد المطلب، فلما بلغه كتاب أخيه ضاقت به الأرض ولم يدر فيم النجاة، فأتى أبا بكر رضي اللّٰه عنه فاستجاره، فقال: أكره أن أجير على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وقد أهدر دمك، فأتى عمر رضي اللّٰه عنه فقال له مثل ذلك، فأتى عليًا عليه السلام فقال: أدلك على أمرٍ تنجو به، قال: وما هو؟ قال: تصلي مع رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم فإذا انصرف فقم خلفه، وقل: يدك يا رسول اللّٰه أبايعك! فإنه سيناولك يده من خلفه فخذ يده فاستجره فإني أرجو أن يرحمك، ففعل، فلما ناوله رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم يده استجاره. 50
وقد روي عنه أنه قد أسلم بعد ذلك كما ذهب إليه ول ديورانت حيث قال: كعب ابن زهير أعظم شعراء العرب في ذلك الوقت، وكان قد هجا النبي (صلى اللّٰه عليه وآله وسلم) في بعض قصائده، وأسلم نفسه إليه واعتنق الإسلام فعفا عنه النبي (صلى اللّٰه عليه وآله وسلم). 51
حماد الراوية وهو ابن أبي ليلى ميسرة- ويقال سابور- بن المبارك بن عبيد الديلمي الكوفي، مولى بكير بن زيد الخيل الطائي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها ولغاتها، وهو الذي جمع السبع المعلقات الطوال، وإنما سمي الراوية؛ لكثرة روايته الشعر عن العرب، 52 وقال يونس بن حبيب: إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر الشعر ويصحف ويكذب، 53 كانت وفاة حماد عن ستين سنة، قال ابن خلكان: وقيل: إنه أدرك أول خلافة المهدي في سنة ثمان وخمسين ومئة. 54
هو معاوية أبو قرة الهوازني، من أشهر شعراء العرب، بلغ من عمره إلى مئتي سنة تقريبًا حتى تغطت حواجبه على عينيه، وقيل: أن دريد كان شيخًا كبيرًا في شجار له يقاد به 55 يوم حنين، وفي رواية: أنه قتل يومئذ.
وقد كان غيرهم شعراء أخر طارت صيتهم في الآفاق والأطراف، منهم: المهلهل عدي بن ربيعة بن مرة بن هبيرة، من بني جشم، أبو ليلى، المهلهل، شاعر، من أبطال العرب في الجاهلية، لقب مهلهل؛ لأنه أول من هلهل نسج الشعر، أي: رققه، وهو خال الشاعر امرؤ القيس، توفي نحو سنة خمسمئة (500) من الميلاد، 56 ومنهم أبو تمام حبيب بن أوس، يقول دعبل بن علي يقول: لم يكن أبو تمام شاعرًا، إنما كان خطيبًا، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر، قال: وكان يميل عليه، ولم يدخله فى كتابه كتاب الشعراء، 57 ومنهم الشنفري، وهو عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان، شاعر جاهلي يماني، من فحول الطبقة الثانية، كان من فتاك العرب وعدائيهم، وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم، قتله بنو سلامان، وقيست قفزاته ليلة مقتله، فكانت الواحدة منها قريبًا من عشرين خطوة، وفي الأمثال: " أعدى من الشنفري "، وهو صاحب "لامية العرب" التي مطلعها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل 58
وهي قصة محرقة حاكية عن حياة الشباب البدويين، وذكر مصاعبهم ومتاعبهم، وفراقهم عن الأحباء والأقرباء. ومنهم المتلمس، هو ابن عبد العزى، ويقال: ابن عبد المسيح، من بنى ضبيعة بن ربيعة... واسمه جرير، 59 توفي عام خمس مئة وخمسين (550) من الميلاد، ومنهم السموأل بن عادياء من أهل تيماء، 60 توفي سنة خمس مئة وستين (560) من الميلاد، ومنهم أوس بن حجر بن عتاب، قال أبو عمرو بن العلاء: كان أوس فحل مضر، 61 توفي سنة ست مئة وأحد عشر (611) من الميلاد، ومنهم أمية بن أبي الصلت بن ربيعة بن عوف بن عقدة... وهو من ثقيف وهو شاعر مجيد في أكثر شعره أدرك الجاهلية والإسلام، 62 توفي سنة ست مئة وأربع وعشرين (624) من الميلاد،كان يهوديًا وله يقول رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم ((آمن شعره، وكفر قلبه))، 63 وحاتم الطائي هو ابن عبد اللّٰه بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي الجواد المشهور، شاعر جاهلي يكنى أبا سفانة بابنته 64 توفي سنة ست مئة وتسعين (690) من الميلاد.
كان للعرب كلهم شغف قلبي بالشعر، وبناءً على ذلك يحترمون ويوقرون شعرائهم، وذلك دليل على أن الأدب العربي بلغ إلى أوج الكمال قبل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وقد مثل ذلك دورًا هامًا في شعرهم حيث أتوا بفصاحة وبلاغة، وبهاء المنظر وحسن الصنعة، وحكايات إيجابية معجبة في أشعارهم، ثم حان وقت أن بعث اللّٰه حبيبه المصطفى صلى اللّٰه عليه وآله وسلم وأوحى إليه، فعجز شعراء العرب الذين كانوا في ذروة الفصاحة والبلاغة عن معارضة ما جاء به الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم من وحي إلهي وما فيه من فصاحة وبلاغة وأسلوب بديع رائع بإتيان كلام يسير، فكان للوحي الإلهي وإعجازه البلاغي المصدق لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم في نبوته ورسالته تأثير بليغ في قلوبهم، حتى هدى اللّٰه بعضهم بنور إلهي حيث اعتنقوا الإسلام ومدحوا الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم في أشعارهم ودافعوا عنه وعن الإسلام.