اللغة العربية هي أول لغة بدأ النطق بها في الجزيرة العربية فانتشرت وانتثرت فوصلت إلى أوج الكمال قبل فجر الإسلام عام ست مئة وعشر (610) من الميلاد، وقد اختلفت الروايات التاريخية في تحديد بداية نشأتها، فنقدّم هنا دارسةً تبحث عن بدايتها وعن قدمها مع فتراتها الثلاثة، وسنقوم بتحليل وتنقيح الروايات الواردة في هذا الباب؛ لينكشف النقاب عن حقيقة خفية وراء أقوال ركيكة، ثم نلخص خصائص ومزايا اللغة العربية كما نذكر درجتها الفائقة التي نالتها من خلال اللغات الأخرى، وأخيرًا نوضح الإعجاز البلاغي للقرآن المبين بكل بسط وتفصيل.
كان سقراط1 يزعم أن أسماء الأشياء من خلق الإله وهي أفضل الأسماء، 2 وقد ذكر أفلاطون فلسفته هذه في كريتليس 391d-e (Cratylus 391d-e)، 3 وبناءً على ما ورد في الأسفار4 تابعه إيونوميس- الذي كان فيلسوفًا كبيرًا عام 394م إلى335م- قائلًا بأن اللغة من خلق اللّٰه تعالى وليست من صنع الإنسان. 5 وأطلق إيونوميس كلمة" اللغة" دون أي تقييد، فتحتمل أن تراد بها لغةً واحدةً أو لغات متعددة في آن واحد.
ويرى اللغويون أن دانته (Dante) يعتقد أن لغة الإنسان الأول- وهو أبو البشر آدم عليه السلام- خلقها اللّٰه تعالى، 6 فيذكر في هذا الصدد:
I say that a certain form of language was created by God along with the first soul; I say 'form' with reference both to the words used for things, and to the construction of words, and to the arrangement of the construction. 7
"أنا أحسب أن اللّٰه تعالى لما خلق الروح أي: آدم عليه السلام فخلق معه لغةً مخصوصةً، فيها أسماء الأشياء كلها مع تركيب حروفها وارتباط بعضها ببعض".
فتشير آراؤهم هذه إلى أن اللغة الأولى من مخلوقات اللّٰه تعالى لا من مصنوعات الإنسان، وإضافةً إلى ذلك إن القرآن الكريم أيضاً يؤيد ما مر من أن اللّٰه تعالى خلق مع الإنسان الأول لغة خاصةً حيث ورد في التنزيل العزيز: وعلّم آدم الأسماء كلها، 8 فتكلم بها آدم عليه السلام بأصوات ولهجات مخصوصة، وهي أول نقطة النطق الإنساني، ثم لما هبط حضرة الإنسان إلى الأرض فنطق باللغة التي علمه اللّٰه تعالى.
إن الإنسان الأول كان مسكنه الجنة قبل الهبوط إلى الأرض بتصريح قول اللّٰه تعالى في التنزيل العزيز: يا آدم اسكن أنت وزجك الجنة، 9 وقوله تعالى: قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو، 10 فقد سكن في الجنة مدةً ثم هبط إلى الأرض بأمر اللّٰه عزّ وجلّ، ومن المؤكد أن لغة أهل الجنة ليست بعبرية ولا سريانية، بل كما روى ابن عباس رضي اللّٰه عنهما عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أنه قال: (( لسان أهل الجنة عربي)) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة، 11 وورد في المعجم الأوسط، 12 والمعجم الكبير للطبراني، 13 والمستدرك للحاكم، 14 والفوائد لتمام البجلي، 15 وشعب الإيمان للبيهقي، 16 والجامع الصغير للسيوطي. 17
فلا مجال للريب والإبهام في أن آدم وحواء عليهما السلام لما كانا في الجنة كانت لغتهما هي العربية، وقد أيده أثر ابن عباس رضي اللّٰه عنهما حيث قال: إن آدم عليه السلام كانت لغته في الجنة العربية، فلما عصى ربه سلبه اللّٰه العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب اللّٰه عليه رد عليه العربية. 18
فثبت أن العربية نالت شرف الأولية في لغات العالم، ولذلك يعتقد أهل اللغة أن مقتضى قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها هو أن اللّٰه عز وجل علمه العربية، فالعربية من هذا المنطلق لغة إلهامية توقيفية، ويدل عليه ما يرويه ابن فارس عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أنه قال: إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) فكان ابن عباس رضي اللّٰه عنهما يقول: علمه الأسماء كلها وهى هَذِهِ التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. 19
وقد سلك هذا المسلك ابن كثير حيث نقل القول بأن أول من تكلم بالعربية آدم، وهو الأشبه. 20
فتدل الأقوال والأنقال السالفة على أن اللغة العربية لغة إلهامية، وأن اللّٰه تعالى لما خلق آدم عليه السلام خلق مع اللغة أيضاً، فعلمه أسماء الأشياء بها، ثم أنزله إلى الأرض فأوحى إليه كلمات شيئًا فشيئًا حسب ما تقتضيها الحال حتى تشكلت لغة مستقلة كذلك. وهذا رأي الإمام الأشعري من أئمة المسلمين وأيده سعيد بن جبير وابن فارس وابن زيد وابن حاجب والعلامة السيوطي أيضًا. 21
نظراً إلى البحث السابق يمكننا أن نقول بكل إتقان: إن لغة آدم عليه السلام وأولاده وأحفاده هي العربية ما داموا قاطنين بمنطقة واحدة، ثم اختلفت لغاتهم ولهجاتهم وأصواتهم بعد ما كثروا وتفرقوا في الآفاق والأطراف يمينًا ويسارًا. 22 واستمرت لغتهم هذه إلى مدة مديدة حتى كان بعض من ركب في سفينة نوح عليه السلام معه ينطق بها كما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أنه قال: لما عرف نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي، فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، أحدها اللسان العربي، فكان لا يفقه بعضهم كلام بعض وكان نوح يعبر عنهم، 23 وبناءً على ذلك يذهب المؤرخون إلى أن لغة العرب البائدة هي العربية، يقول القلقشندي: قد كان قبله (يعرب بن قحطان) أمم من العرب كعاد وثمود وغيرهم يتكلمون العربية. 24
تدل أولية العربية على قدمها، فهي أقدم اللغات كأولاها، واتفق المؤرخون على أن لغة العرب العاربة- وهم العرب الأولون- العربية، وذلك لما دعاهم نمرود إلى عبادة الأوثان ففعلوا، فأمسوا وكلامهم السريانية، ثم أصبحوا وقد بلبل اللّٰه ألسنتهم، فجعل لا يعرف بعضهم كلام بعض، فصار لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث ستة وثلاثون لسانًا، ففهم اللّٰه العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس وعمليق وطسم وأميم وبني يقطن. 25 وكان أهل اليمن عربًا، منهم جرهم الذي نشأ إسماعيل بينهم، وتعلم منهم العربية وكانت قبائل من العرب قديمة قبل إبراهيم عليه السلام، مثل طسم وجديس وكل هؤلاء عرب تكلموا في قدم الزمان بالعربية. 26
من المعلوم أن اللغة العربية أقدم اللغات وأولاها، قد نطق بها آدم عليه السلام ثم أخذت تنتشر منذ زمنه في الأقطار والأطراف حتى عمت أكثر بلاد العالم، ومن هذه الناحية تعتبر العربية أم اللغات على الإطلاق، ويعلم استقراءً وتتبعًا أنه لما انتشرت ذرية حضرة الإنسان الأول في المدن والقرى أممًا وأقوامًا فبدأت تتغير لغاتهم ولهجاتهم شيئًا فشيئًا فتعرفت المجتمات البشرية على اللغات الجديدة غير العربية، والنصوص القرآنية تصرح على كون اللغة العربية أم الألسنة لاسيما الآية التي ورد فيها ذكر مكة المكرمة باسم أم القرى حيث قال اللّٰه تعالى: وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها، 27 إشارة إلى أنها أول بقعة نشأ فيها المجتمع البشري وانتشر منها حيث كانت مهبط الإنسان الأول، وهو أول من أسس البيت وصلى فيه، وطاف به، 28 وقال تعالى:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96 29
حيث برز المجتمع البشري إلى حيز الوجود وأكب الإنسان على عبادة اللّٰه تعالى بوحده أصبح لسانه أول لسان نطق بها وهو أم الألسنة، ثم تفرعت منه لغات أخرى كسامية وغيرها، وذلك أن اللغة العربية لغة رسمية لأهل مكة من بداية الأمر دون انحصار النطق بها في الجزيرة العربية فقط، بل القبائل العربية الرحالة التي تختلف من مكان إلى مكان حسب مدارها السنوي لما ارتحلوا إلى أفريقيا خلف البحر الأحمر اختلطوا بأهلها وامتزجوا بهم، وقد أثّر ذلك في انطلاق ألسنتهم على اللغة العربية تأثيرا بليغا، فتشكلت من هذا الامتزاج لغة حبشية، وهي في الأصل لغة من اللغات السامية. 30
كانت الجزيرة العربية موطن بني سام، وأيًّا كانت اللغة التي تكلم بها بنو سام؛ لكن الوضع الجغرافي يشير إلى أن لغتهم كانت عربية تسمى من حيث قوميتهم بـ"الآرامية"؛ لأن أشهر القبائل فيها بنو إرم بن سام، فالآرامية هي فرع العربية الأول، وهي لغة إبراهيم عليه السلام، ونقل السيد سليمان الندوي في كتابه أنه يؤكد عالم مسيحي- وهو القس جبريل أستاذ اللغتين العربية والسريانية في المدرسة الرومانية- أن علماء اللغة السريانية بالغوا مبالغةً كبيرةً في قِدم اللغة الآرامية، فزعموا أنها لغة آدم؛ لكن المحققين لا يزيدون على أنها لغة إبراهيم جد العبرانيين، فإذًا ليست لغة إسماعيل عليه السلام الأصلية العبرية، وإنما هي العربية الآرامية. 31
ولغة ثمود من بني سام أيضًا كانت العربية الآرامية، وقد اكتشفت في المناطق الواقعة شمال الجزيرة العربية لوحات وكتبات عليها نقوش باللغة العربية الآرامية ما تؤدي إلى أنها لغة استمرت من زمن إسماعيل عليه السلام، والعرب يسمون لغة عرب البائدة بـ"المسند"، يقول العلامة الحموي: أهل المسند عاد وثمود والعماليق وجرهم وعبد بن الضخم وطسم وجديس وأميم فهم أول 32 من تكلم بالعربية بعد البلبلة، ولسانهم المسند وكتابهم المسند. 33
ومن الجدير بالذكر هنا أن المراد بـ"المسند" هو العربية المعهودة، ويراها العرب أول فرع انشعب من العربية، فيثبت وجود العربية في الأمم السامية الأولى، ولما انتشرت القبائل السامية وكثرت ذراريها فبقيت اللغة العربية فيهم لغة التحاور والتحادث.
لابد من ذكر قصة بلبلة الألسنة الواردة في الأسفار والكتب التاريخية؛ تبييناً لفترات مرت بها العربية وتتميماً لدراية الأقوال التي تؤكد أنها أول لغة برزت إلى حيز الوجود، فقصة بلبلة الألسنة وردت في سفر التكوين على النحو التالي:
Now the whole earth had one language and one speech. And it came to pass, as they journeyed from the east, that they found a plain in the land of Shinar, and they dwelt there. Then they said to one another, "Come, let us make bricks and bake them thoroughly."They had brick for stone, and they had asphalt for mortar. And they said, "Come, let us build ourselves a city, and a tower whose top is in the heavens; let us make a name for ourselves, lest we be scattered abroad over the face of the whole earth."But the Lord came down to see the city and the tower which the sons of men had built. And the Lord said, "Indeed the people are one and they all have one language, and this is what they begin to do; now nothing that they propose to do will be withheld from them. Come, let Us go down and there confuse their language, that they may not understand one another’s speech."So, the Lord scattered them abroad from there over the face of all the earth, and they ceased building the city. Therefore, its name is called Babel, because there the Lord confused the language of all the earth; and from there the Lord scattered them abroad over the face of all the earth. 34
كانت الأرض كلها لسانًا واحدًا ولغةً واحدةً، وحدث في ارتحالهم شرقًا أنهم وجدوا بقعةً في أرض شنعار، وسكنوا هناك، وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحمر مكان الطين، وقالوا: هلم نبني لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما؛ لئلا نتبدد على وجه الأرض، فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دعي اسمها بابل؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض. 35
وحسب ما ذهب إليه شارح الأسفار وليم ماكدونالد في تفسيره بأن قال: أدان الرب الناس بأن بلبل لغتهم، كان ذلك بداية ظهور اللغات المختلفة التي نجدها في العالم اليوم، يوم الخمسين (أع 2: 1-11) على العكس من بابل، حيث أن كل إنسان سمع أعمال اللّٰه العجيبة بلغته الخاصة في ذلك اليوم، وبابل تعني بلبلة أو تشويش، وهي النهاية الحتمية لأي اتحاد يترك اللّٰه خارجًا، أو لايحظى بمصادقة اللّٰه، 36 وذلك بأنهم قد فعلوا ما نهوا عنه، 37 وأما المؤرخون المسلمون فإنهم أيضًا قالوا: إن عذاب البلبلة نزل على الناس بسبب تلوثهم وتورطهم في رجس الأوثان في عهد ملك نمروذ بن كنعان حيث أكره رعيتهم على عبادة الأصنام، فسلب اللّٰه تعالى عقولهم عقابًا لهم، واختلّت حواسهم حتى فقدوا قدرتهم على التكلم وفهم كلام بعضهم بعضًا، فبدأوا يتكلمون بما لا يُفهم وبلبلت كلماتهم وفسدت ألفاظهم وخربت أصواتهم واختلطت لهجاتهم ولم تبق لغتهم على شكل صحيح سالم فأصبحوا معتوهين ومجانين وتكونت من أصواتهم المختلفة لهجات متنوعة، ونتيجةً لذلك تعددت لغاتهم كما ينص الإمام الطبري على أن كان يقال لعاد في دهرهم عاد إرم، فلما هلكت عاد قيل لثمود إرم، فلما هلكت ثمود قيل لسائر بني آدم أرمان، فهم النبط، فكل هؤلاء كانوا على الإسلام وهم ببابل، حتى ملكهم نمرود فدعاهم إلى عبادة الأوثان ففعلوا، فأمسوا وكلامهم السريانية، ثم أصبحوا وقد بلبل اللّٰه ألسنتهم، فجعل لايعرف بعضهم كلام بعض، فصار لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني یافث ستة وثلاثون لسانًا.38
ويذكر أبو جفعر البغدادي أن الذين كانوا مع نوح عليه السلام ونجوا من الطوفان هم ثمانون نفسًا، وتمام ثمانين ممن أسلم، وغرق جميع الخلق غير هولاء الثمانين... فأرفأت السفينة الى الجودي فخرجوا منها، فابتنوا ثمانين بيتًا، فسميت سوق ثمانين، فلما كثروا ابتنوا بابل، 39 والمدة بين الطوفان وبين تبلبل الألسن بأرض بابل ستمئة وسبعون سنة (670)، 40 فدعاهم ملكهم نمروذ إلى عبادة الأوثان رادًّا عن الإسلام، فأكبوا على الأصنام دون عبادة اللّٰه تعالى، فسلب اللّٰه عقولهم، وتغيرت لهجاتهم وأصواتهم وكلماتهم، وتبلبلت لغاتهم، وأصبحوا معتوهين ليس فيهم رجل يعرف كلام صاحبه، وهنا تنتهي الفترة الأولى للغة العربية التي كانت بدايتها من آدم عليه السلام، وبدأت الفترة الثانية.
قد وقع النقاش الساخن بين المؤرخين في أول من تكلم بالعربية بعد البلبلة ومن جراء ذلك اختلفت أقوالهم في أنه كيف كان بدؤها في الفترة الثانية؟ فودّع المؤرخون في صفحات التاريخ أقوالًا متعددةً مرويةً في هذا المجال، ولا يمكننا ترجيح قول معين من خلالها إلا بتحليل القرائن الخارجية التي تقويه وتؤكده، فنذكر هنا أقوالًا وآراءً تاريخيةً ثم نقدم أشهرها وأقربها إلى القبول روايةً ودرايةً، فيقول ابن إسحاق: كان جرهم وأخوه قيطورا أول من تكلم بالعربية عند تبليل الألسن. 41 ونقل ابن هشام ما أجاب عبيد عن سؤال طرح عليه معاوية رضي اللّٰه عنه، قال عبيد: سل يا أمير المؤمنين، قال معاوية: من العرب العاربة ومن العرب المستعربة؟ قال: يا معاوية أتعلم أنت وغيرك من أولي العلم، إنما هي عاد وثمود وطسم وجديس وإرم والعماليق ورهم وقحطان بن هود، فهم كانوا أوائل الناس، منهم يعرب الذي تكلم بالعربية، كل أخذه من يعرب ابن قحطان بن هود، وإليه تنسب العربية، فقيل: عربي؛ لأن يعرب أول من نطق بها، وليس أحد غيره تكلم قبله بها. 42 ويرى ابن جرير الطبري أن عادًا وثمود والقبائل المنحدرة منهما تكلموا بالعربية بعد بلبلة الألسنة، يقول: ففهّم اللّٰه العربية عادا وعبیل وثمود وجدیس وعملیق وطسم وأميم وبني يقطن من عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. 43
وأما ابن سعد فأرود رواية أخرى وفيها أن عماليق أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل وكان يقال لهم ولجرهم العرب العاربة. 44 وروى ابن سعد عن عقبة بن بشير أيضًا بسنده أنه سأل محمد بن علي: من أول من تكلم بالعربية؟ قال: إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، 45 فتتواجد آراء متعارضة في تعيين أول ناطق بالعربية في الفترة الثانية، وبذلك يستصعب على القارئ أن يصل إلى القول الراجح منها، إلا إن أمعن النظر فيها بدقة فظهر أن هذه الآراء المتضاربة تسببت للتطبيق بين القولين المشهورين، وهما أن "يعرب" هو أول من نطق بمنطق العربية، وأن إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الحجازية الخالصة، التي أنزل بها القرآن الكريم، 46 ومن ثَم كثير من المؤرخين قد ذهبوا إلى أن الآراء الأخرى هي ركيكة مرجوحة، وقد نقد الدكتور جواد علي هذه الأقوال نقدًا تحليليًا، ثم رجح منها هذين الرأيين فقال: وترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية فبينما يذهبون إلى أن يعرب كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي... ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل، ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا، وكان أول من فُتِق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة وإسماعيل هو جد العرب المستعربة على حد قولهم... وللإخباريين كلام طويل فى هذا الموضوع، الأشهر منه القولان المذكوران ووفق البعض بينهما بأن قالوا: إن"يعرب" أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل بمنطق العربية وإسماعيل هو أول من نطق عليها القرآن. 47
فتتجلى مما ذُكر من الآراء التاريخية المأثورة في الفترة الثانية أنها وإن تعارضت فيما بينها إلا أن المؤرخين قد رجحوا القولين الأخيرين، ووفقوا وطبقوا بينهما بالقرائن، وذلك يدل على أن يعرب أول من تكلم بالعربية بينما الأقوال الأخرى ضعيفة ومرجوحة لضعف في سندها وتعارض فيما بينها.
والأمر الثاني الذي تجلى من الآراء السابقة أن المؤرخين كلهم يعتقدون أن يعرب وإسماعيل عليه السلام ألهما العربية إلهامًا من اللّٰه، وذلك يؤيد ما ذكرنا سابقًا أن اللغة العربية انطلق بها لسان آدم عليه السلام لأول مرة، وكان ملهمًا إليه من اللّٰه، ولما كان القول بأن المؤخرين ألهما العربية من عند اللّٰه مسلما فالقول بأنها منزلة وملهمة من اللّٰه على سيدنا آدم عليه السلام بالطريق الأولى.
قد طبق السهيلي بين القولين المذكورين في الروض الأنف حيث قال: روى ابن إسحاق فى الكتاب الكبير عن شهر بن حوشب عن أبي ذر رضي اللّٰه عنه عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أنه قال: أول من كتب بالقلم 48 "إدريس" وعنه أنه قال: أول من كتب بالعربية "إسماعيل" 49 وقال أبو عمر: وهذه الرواية أصح من رواية من روى: أن أول من تكلم بالعربية إسماعيل". 50
وأبو عمر هذا هو حافظ المغرب يوسف بن عبد اللّٰه بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي المتوفي سنة 463 من الهجرة، وبناءً على ما نقله السهيلي عنه أيده أبو الطيب الفاسي في شفاء الغرام حيث قال: ذكر السهيلي ما يقتضي ترجيح ما قيل من إن إسماعيل أول من كتب بالعربية. 51
ويتبين من هذا أن الرواية المثبتة للكتابة أصح وأرجح من الرواية الدالة على أولية التكلم رغم أن الرواية مصرحة في إثبات الكتابة دون التكلم، وأرجحيتها تستلزم أن أول من تكلم بالعربية في الفترة الثانية هو كان يعرب بن قحطان لا غير.
يعرب تكلم بالعربية وذلك أن أباه قحطان كان يتكلم بالعربية، هذا ما قاله ابن خلدون؛ 52 لكن ذكر جمهور أهل السير والتاريخ أن يعرب هو أول من نطق العربية، ومن ثم كان حسان بن ثابت رضي اللّٰه عنه-وهو قحطاني الأصل- يتفاخر على العدنانين بقوله:
تعلمتمُ من منطق الشيخ يعرب أبينا فصرتم معربين ذوي نفر 53
كنتم قديماً ما لكم غير عجمة كلام وكنتم كالبهائم في القفر 54
فيظهر من أبيات حسان رضي اللّٰه عنه بجلاء أن أول من تكلم بالعربية هو يعرب لا أبوه قحطان كما ذهب إليه ابن خلدون، وهذا هو مشهور عند المؤرخين، وأيد هذا الرأي محمد بن يوسف الصالحي بقوله: ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية أي من أهل اللسان السرياني، 55 ونزل أهل اليمن، وهو أبو اليمن كلهم. 56كما أيده الطيب النجار بقوله: إنه أي: يعرب أول من نطق باللغة العربية الفصحى. 57
من الجدير بالتنبيه على أننا نبحث عن أول من نطق بالعربية في الفترة الثانية وإلا فأقوام العرب وشعوبهم كانت موجودةً قبل يعرب بن قحطان الذين كانت لغتهم العربية، كما ذكره القلقشندي نقلًا عن الجوهري في قلائد الجمان، قال الجوهري: وهو أول من تكلم بالعربية، ولعله يريد أول من تكلم بها من بني قحطان وإلا فقد كان قبله أمم من العرب كعاد وثمود وغيرهم يتكلمون العربية. 58 فما ذكرنا من أن يعرب بن قحطان أول من نطق بالعربية ليس المراد به أنه لم يكن أحد قبله نطق بها؛ لما كانت لغة العرب البائدة لغةً عربيةً، بل المراد بذلك أن يعرب أول من نطقها في بني قحطان من العرب العاربة في الفترة الثانية.
فملخص الكلام أن المؤرخين قد أوردوا أقوالًا عديدةً في أول من نطق بالعربية إلا أنها في غاية الركاكة، نعم! إنهم متفقون على ذكر قولين مشهورين، وحملوا كلا منهما على محمل صحيح، فيعرب بن قحطان أول من نطق بالعربية على قول، وأما القول الآخر فمحمله غير الأول، فاتضح من هذا أن أول من تكلم بالعربية في فترتها الثانية من العرب العاربة هو يعرب بن قحطان ثم انتقلت هذه اللغة في ذريته جيلًا إثر جيل حتى دخلت في فترتها الثالثة.
فترة العربية الثالثة بدأت من يعرب بن قحطان واستمرت إلى أن أوحى اللّٰه إلى إبراهيم أن تأتي بمكة، وليس بها يومئذ نبت، فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر عليهم السلام فوضعهما بمكة بموضع زمزم، 59 وأسكنهما بواد قفر غير ذي زرع ولا نبت، قال اللّٰه تعالى عنه في التنزيل العزيز: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، 60 ونشأ إسماعيل عليه السلام وترعرع فيه، ثم اختلط بقبيلة جرهم وتزوج بامرأة منهم فتعلم منهم اللسان العربي، فيكون بعد تعلمه أصل العربية من جرهم، ألهمه اللّٰه العربية الفصيحة المبينة فنطق بها، 61 فلغته كانت عربيةً مبينةً خالصةً فصيحةً يتحير منها بنو جرهم، وهي فترتها الثالثة وأول ناطقيها سيدنا إسماعيل عليه السلام، وقد روي عن ابن عباس رضي اللّٰه عنهما أنه قال: أول من نطق بالعربية إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام). 62
وقال ابن سعد: عن عقبة بن بشير أنه سأل محمد بن علي: من أول من تكلم بالعربية؟ قال: إسماعيل بن إبراهيم صلى اللّٰه عليهما وهو ابن ثلاث عشرة سنة. 63 وقال ابن الجوزي: أول من كتب بالعربية مرار بن مرة من أهل الأنبار، وأول من تكلم بالعربية إسماعيل عليه السلام. 64
فعلم من هذا أن بداية الفترة الثالثة كانت من إسماعيل عليه السلام، وهو أول من نطق بالعربية المبينة الفصحى، وذلك بسبب أنها ألهمت إليه من اللّٰه تعالى بعد تعلمه إياها كما أشار إليه ابن الجوزي في المنتظم حيث قال: وفي رواية عن أبي جعفر، قال: ألهم اللّٰه إسماعيل العربية فنطق بها. 65
ولما كانت ملهمةً منزلة إليه فكان أفصح وأبلغ من بني جرهم، يروي ابن كثير في البداية والنهاية قال: (( عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أنه قال: أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة)). 66 وكذلك رواه ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: بعد تعلمه أصل العربية من جرهم ألهمه اللّٰه العربية الفصيحة المبينة فنطق بها. 67 وكذلك رواه ابن كثير في البداية والنهاية: وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم... ولكن أنطقه اللّٰه بها في غاية الفصاحة والبيان وكذلك كان يتلفظ بها رسول اللّٰه. 68
فتدل هذه الأخبار على أن اللغة التي نطق بها إسماعيل عليه السلام كانت أكثر فصاحةً وبلاغةً من التي كانت في فترتيها الأوليين، وذلك فإن إسماعيل عليه السلام تعلمها أولًا باختلاطه وامتزاجه مع جرهم، وثانيًا ألهمت إليه من اللّٰه عز وجل، فتكلم بها أفصح ثم أخذها منه الأجيال القادمة توارثًا وتناقلًا مع كل فصاحتها وبلاغتها، يقول ياقوت الحموي: واللسان السادس ممن أنطقه اللّٰه في عربة بلسان لم يكن قبلهم إسماعيل بن إبراهيم فأنطقوا بالمبين وهو السادس تكلم بالعربية هو وبنوه ولسانهم المبين وكتابهم المبين وهو الغالب على العرب اليوم. 69 وأصبحت لغة أهل الحجاز، وتكلم بها الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، وبها أنزل القرآن الكريم، يقول بيومي مهران: إن يعرب هو أول من نطق بمنطق العربية، وأن إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الحجازية الخالصة، التي أنزل بها القرآن الكريم. 70
فاللغة العربية كانت منطوقةً في الجزيرة العربية قبل إسماعيل عليه السلام إلا أن إسماعيل عليه السلام نطق بالعربية مع فصاحتها التي ألقيت إليه بإلهام إلهي، ومن هذا المنطلق أصبح إسماعيل عليه السلام مؤسس العربية المبينة الفصيحة، ومن المؤكد أن ما نطق بها إسماعيل عليه السلام هي كانت عربيةً فصحى، فهذه فترتها الثالثة وهي أجود وأفضل من الفترتين الأوليين، وهيكلها اللفظي مبني على الفصاحة والبلاغة الإلهامية، وبها أنزل اللّٰه كلامه المبين، وقد فسر أحكامه ووضحها الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم بهذه اللغة الفصيحة البليغة.
كانت لغة بني إسماعيل عليه السلام عربيةً مبينةً خالصةً؛ لكن لما كثرو وانشعبوا في القبائل والأقوام وانتشرت في الأطراف والآفاق، وكثرت رحلاتهم وعلاقاتهم التجارية مع العرب والعجم، فصادفت العربية بعض التغير والتبدل وتسربت إليها كلمات عجمية فتعربت كل هذه المصطلحات والكلمات التجارية وغيرها يقول الدكتور توفيق برو: وقد أدى اختلاط قوافل تجار العرب من قديم الزمن بعرب الشام وغيرهم إلى تسرب كثير من الكلمات التجارية والحضارية من يونانية وغير يونانية إلى لغة العرب، فتعربت بمرور الزمن في العهد الجاهلي. 71
فعلاقاتهم وارتباطاتهم التجارية والدبلوماسية كانت مستلزمةً لتدخل وتسرب الكلمات والألفاظ العجمية في العربية إلا أن العرب لم يتنازلوا عن تحسين العربية وإجادتها ولا تنازلوا عن رتبتها الفائقة التي كانوا عليها، بل قبلوا الكلمات العجمية واستخدموها في العربية فعربوها بقواعد عربية كأنها كلمات عربية، وإلى جانب ذلك قد تغيرت لهجات بني إسماعيل عليه السلام وأصواتهم، وانقسمت في مجموعات مختلفة، ولكل مجموعة لهجات محلية؛ لكنها لم تكن تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، وتتباين بونًا شاسعًا، وإنما اختلفت في أمور بسيطة من الفروق اللسانية، بحيث لا نستطيع أن نضعها في مجاميع لغوية جديدة، 72 ثم استمر اختلافهم في اللهجات والأصوات والألفاظ والكلمات إلى عهد جاهلي بل إلى بداية عهد الإسلام كما ذكره الأئمة اللغويون، فنذكر بعض اللهجات العربية وأسمائها في السطور الآتية.
قد ذكر أئمة اللغة أسماءً معينةً لهذه اللهجات والاختلافات الواقعة في كلمات العربية المبينة، وهي تالية:
"اللهجة الأولى هي العنعنة، وفيها يبدل بنو تميم الهمزة عينًا إذا كانت في بداية الكلمة،كـ"عنّك" بدلًا عن "أنّك"، ويسميها أئمة اللغة العنعنة كما ذكره الزبيدي: العنعنة في قيس وتميم تجعل الهمزة المبدوء بها عينًا فيقولون في أنك عنك، وفى أسلم عسلم. 73 وقال الإمام ابن أثير في هذا المساق: فأبدلت من الهمزة عينًا، وبنو تميم يتكلمون بها وتسمى العنعنة 74 وكما ورد في رواية أن قيلة رضي اللّٰه عنها قالت: تحسب عني نائمة. 75
وكانت الكلمة في الأصل "أني نائمة" حيث أبدلت في لغة بني تميم بـ"عني"، وذكر أبو موسى تعليقًا على هذا الرواية: أي: تحسب أني يبدلون من الهمزة عينًا، وبنو تميم يتكلمون بهذه اللغة. 76
كان بنو قضاعة يبدلون الياء جيمًا، فيقولون "معج" مكان "معي"، وهذا ما يسمى عند أئمة اللغة بـ"العجعجة" كما قال الفارابي: العجعجة في القضاعة. 77
الاستنطاء وهو تبديل العين الساكنة نونًا إذا كانت مجاورةً لطاء، وكان ذاك في لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس، فيقولون "أنطى" مكان "أعطى"، وفي هذا الصدد يقول أحمد فارس: في لغة سعد بن بكر والأزد وهذيل والأنصار يجعلون العين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء كأنطى في أعطى. 78
وهذا ما سماه أهل اللغة بـ"الاستنطاء" كما قال أحمد رضا الدمشقي: الاستنطاء وهو قلب العين الساكنة قبل الطاء نونًا يقولون أنطى في أعطى. 79 ومثله ذكر الدكتور جواد علي أيضًا. 80
بنو ربيعة وبنو أسد كانوا يزيدون الشين بعد كاف الخطاب إذا كانت للمؤنث أي: كاف مجرورة، فيقولون "عليكِش" مكان "عليكِ"، قال الفيروزآبادي: وفي بني أسد أو ربيعة إبدال الشين من كاف الخطاب للمؤنث كعليش في عليك زيادة شين بعد الكاف المجرورة تقول عليكش. 81 واللغويون يسمونه بـ"الكشكشة"، يذكر أبو الحسن المرسي أن الكشكشة لغة لربيع. 82
وأما الكسكسة فهي إلحاق كاف المؤنث سينًا عند الوقف دون الوصل نحو أكرمتكس أى: أكرمتك، أو إبدال الكاف سينًا نحو أبوس في أبوك، وهي لغة لتميم أو لهوازن أو لبكر. 83 وقال الزبيدي: ومنهم من يبدل السين من كاف الخطاب فيقول: أبوس وأمس أي: أبوك وأمك. 84 وحكى الصنعاني نقلًا عن ابن عباد قال: والصواب أن الكسكسة لتميم والكشكشة لبكر، 85 لإلحاق السين في الكسكسة والشين في الكشكشة.
وعرفت لغة "بهراء" بوجود "التلتلة" بها. وتلتلة بهراء كسرهم تاء تفعلون، مثل كسر تاء تعلم في موضع الفتح، وكسر التاء من "تكتب"، وذلك أنهم يكسرون أحرف المضارعة مطلقًا، ونسب ابن فارس في فقه اللغة هذا الكسر لأسد وقيس، إلا أنه جعله عامًا في أوائل الألفاظ، فمثل له يقوله: مثل تعلمون وتعلم وشعير وبعير. 86
وكانت من هذه اللهجات "الوتم والوكم والشنشنة والفحفحة والتلتلة" وغيرها، وكذلك كلمة "ذو" تستخدم بمعنى "الذي" كما في شعر قيس بن جروة الطائي:
لئن لم تغيّر بعضَ ما قد صنعتُمُ لأنْتَحِيَن للعظيم ذو أنا عارقه 87
فـ"ذو" في هذا البيت مستخدم بمعنى "الذي"، ومن ثم لقب قيس بن جروة الطائي بـ"العارق" وعلم من هذا أن كلمة "ذو" كانت بمعنى "الذي" في لغة بني طئ لا غير.
إضافةً إلى ما مر من ذكر اللهجات آنفًا كانت هناك اختلافات أخرى في الكلمات أيضًا:
منها: الاختلاف في الهمز والتليين نحو مستهزئون ومستهزون.
ومنها: الاختلاف في التقديم والتأخير، نحو: صاعقة وصاقعة.
ومنها: الاختلاف في الحذف والإثبات، نحو استحييت واستحيت.
ومنها: الاختلاف في الحرف الصحيح يبدل حرفًا معتلًا، نحو أما زيد، وأيما زيد.
ومنها: الاختلاف في الإمالة والتفخيم، مثل: قضى ورمى، فبعضهم يفخم وبعضهم يميل.
ومنها: الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول، ومنهم من يضم، نحو اشتروا الضلالة.
ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث، فإن من العرب من يقول: هذه البقر، وهذه النخل، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذا النخل.
ومنها: الاختلاف في الإدغام نحو: مهتدون ومهدّون.
ومنها: الاختلاف في الإعراب نحو: ما زيد قائمًا، وما زيد قائم.
ومنها: الاختلاف في التحقيق والاختلاس نحو: يأمركم ويأمركم، وعفي له، وعفى له.
ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمه، وهذه أمت.
ومنها: الاختلاف في الزيادة نحو: أنظر، وأنظور. 88
فعلم أن القبائل المنشعبة من بني إسماعيل عليه السلام كانت تنطق بالعربية المبينة الفصحى مع لهجات وأصوات واختلافات كالعنعنة والعجعجة والكشكشة والكسكسة والاستنطاء وغيرها، وهذه اللهجات وإن كانت مستلزمةً للخلافات الكمية والكيفية في الأصوات إلا أنها لا تخل بالمعنى والمفهوم.
كان العرب أفصح الناس وأبلغهم وأكثرهم مهارةً في لغتهم، يعتبرون لغات أخرى كلاشيء أمام لغتهم العربية، ولذلك يطلقون على من لم ينطق بها عجميًا أي: من في لسانه عجمة، ومن أكبر أسبابه أنهم لم يتركوا لغتهم ولو للحظة مع كثرة اختلاطهم بالأجانب والأعاجم، بل أخذوا منهم ألفاظًا وكلمات وأدخلوها في لغتهم إن وجدوا فيها مناسبة يسيرة فتظل كأنها كلمات عربية، ومن أجل هذه الحيطة التي أخذوها تجاه الحفاظ على اللغة العربية كانت لغتهم فصيحةً بليغةً وممتازةً بين لغات العالم، ولذلك كان لهم تفوق لساني على الآخرين.
ولما كان دأب عامة العرب أن لايقبلوا كلمةً عجميةً إلا أن يعربوها وفق القواعد اللغوية، فكيف بمن أعلاهم فصاحةً وبلاغةً كالقريش؟ وقد كانوا أحذر العرب وأحوطهم في هذا الباب حيث يمتنعون عن قبول الكلمات العجمية، إلا إن اضطروا لذلك فضموها في لغتهم بدقة رائعة حيث لا يبقى عليها أيّ أثر من العجمة فترى من حيث بنيتها وصياغتها كأنها عربية قحة، ولها أمثلة عديدة في القرآن الكريم، ومن ثم أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنةً وأصفاهم لغةً، 89 وبلغتهم أنزل القرآن الكريم، كما ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية((كانت قريش تختار أفضل لغات العرب حتى صار أفضل لغاتها فنزل القرآن بها)). 90
وقد كانت للغات شمال الجزيرة العربية ولهجاتها تأثير بالغ على لغات ولهجات متداولة في الجنوب رغم أنها فعلت دورًا فعالًا في تقليل ما كانت عليها من آثار البداوة والخشونة وغير ذلك مما استأثرتها من تربتها، ثم مع مرور الزمن بدأت لغة قريش تغلب على لغات المناطق الشمالية لأسباب دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية، 91 ولما نزل القرآن بها فأصبحت أعلى اللغات وأولاها وأسماها، وأضاف ذلك إلى شهرتها وسمعتها حتى عدت قريش أفصح العرب، ذكر الدكتور جواد على أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنةً، وأصفاهم لغةً، وأجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ. 92
وقد ذاعت صيت اللغة العربية في أنحاء العالم وازدادت شهرتها فصارت كأنها مجمع عليها في فصاحتها وبلاغتها، يقول ابن فارس القزويني في هذا المساق: أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنةً وأصفاهم لغةً... وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائرهم وسلائقهم التي طبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفية قيس ولا كشكشة أسد ولا كسكسة ربيعة ولا الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس". 93
ولغة قريش كانت منزهةً من اختلافات كبيرة في اللهجات والأصوات والكلمات، فاعترفت القبائل العربية الأخرى بفصاحتها وبلاغتها، وذلك بسبب أنهم كانوا سكان مكة الحقيقيين ولغتهم كانت أصل اللغة، يقول ابن سيده: صارت لغتهم الأصل؛ لأن العربية أصلها إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة. 94
فقريش أفصح العرب، وهم معدن الفصاحة ومركزها وينبوعها، ثم من جاورهم وقاربهم، ثم الأبعد فالأبعد، فكلما بعد قوم عن قريش ضعفت الفصاحة والبلاغة في لسانهم، ولهذا كان احتجاج علماء اللغة بلغات العرب على نسبة بعدهم عن قريش، فاعتبروا لغة قريش وأفصح اللغات وأصرحها؛ لبُعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم، ثم تركوا الأخذ عمن بعُد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن؛ لمجاورتهم الفرس والروم والحبشة. 95
وكون قريش فصحاء العرب وبلغائهم وكونهم سكان مكة المكرمة جعل القبائل العربية تنظر إليهم بنظرة العزة والتعظيم، تتحاكم إليهم في مشاجراتهم وتنافراتهم، وذلك أن اللّٰه جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. 96
فقريش كانوا أفصح العرب وخيرتهم؛ للباقة لسانهم وفصاحته وبلاغته فأصبح لسانهم معيار اللغة العربية ومقياسها.
من المؤكد أن قريشا أفصح العرب بيد أن الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم أفصح القريش على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، يقول الملا علي القاري: وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى اللّٰه عليه وآله وسلم من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل. 97
وكان صلى اللّٰه عليه وآله وسلم أوتي جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها حتى كان كثير من أصحابه يسئلونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله، 98 وكانوا يتحيرون عندما يرون فصاحته وبلاغته صلى اللّٰه عليه وآله وسلم كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (( قال له رجل: يا رسول اللّٰه ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال: حق لي، وإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين)). 99 وقد جاء في جزء ابن غطريف أنه صلى اللّٰه عليه وسلم سئل عن فصاحته: (( عن عمر بن الخطاب رضي اللّٰه عنه أنه قال: يا رسول اللّٰه ما لك أفصحنا؟ ولم تخرج من بين أظهرنا ؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاء بها جبريل فحفظنيها فحفظته)) 100
وإضافةً إلى ذلك كان الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم يعتز بانتسابه إلى قريش ونشأته في بني سعد، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان أن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم قال: ((أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد))، 101 وكل من قريش وبني سعد قبيلتان لهما كعب عميق في البلاغة والفصاحة، أما قريش فكانت أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانةً عما في النفس، 102 وأما بنو سعد فكان صلى اللّٰه عليه وآله وسلم مسترضعًا فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عُليًا هوازن وسفلى تميم. 103
فعلمنا أن فترة العربية الثالثة التي بدأت من زمن إسماعيل عليه السلام وجاء فيها بنوه انتهت إلى قريش مكة وهي من أجود الفترات وأحسنها، وقد لقبت قريش بأفصح العرب في الجزيرة العربية، وكان من أفصح الفصحاء في قريش الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم حيث أنزل اللّٰه تعالى كلامه بلسانه.
يمكننا أن نعرف فصاحة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بأنه صلى اللّٰه عليه وسلم كان يؤدي حروف العربية أداءًا متكاملًا، ولايخلو ذلك من الفصاحة اللسانية العليا؛ وذلك فإن حرف "الضاد" من الحروف العربية إما أنه لايوجد في لغة أخرى وإما أنه لا يمكن لغير العرب أن يتلفظ به تلفظًا صحيحًا، ومن ثم لقب العرب بلقب "الناطقون بالضاد". فإنهم لقادرون على تلفظ الضاد الصحيح، والمصريون يبدلون الضاد دالًا، 104 وقد روى أنس بن مالك رضي اللّٰه عنه عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم في صدد تخصيص الضاد بالعربية والعرب أنه قال: (( أنا أفصح من نطق بالضاد)). 105
فظهر من هاتين الروايتين أن التلفظ بحروف العربية أصعب منه بحروف لغة أخرى، ثم التلفظ بالضاد أصعب من التلفظ بحروف أخرى؛ فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب رضى اللّٰه عنه أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، 106 وقد انفرد الضاد بالاستطالة وهي الامتداد من أول حافة اللسان إلى آخرها حتى تتصل بمخرج اللام لما فيه من قوة الجهر والإطباق والاستعلاء، وليس في الحروف ما يعسر على اللسان مثله، وألسنة الناس فيه مختلفة 107 إلا أن عمر رضي اللّٰه عنه كان من أفصحهم تلفظًا به بعد الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، ثم نزل بهذه اللغة القرشية القرآن المبين حتى كتب لها الدوام إلى يوم القيامة.
وتشير هذه التفاصيل إلى أن اللغة العربية لم تمر بمراحل تطويرها في فتراتها الثلاثة كبلوغ لغة أخرى إلى الكمال بعد مرورها بمراحل التطوير، بل التاريخ يشهد أنها لسان إلهامي توقيفي، وقد أثر التوقيف في تحسينها وتزيينها أثرًا بالغًا، وكذلك يدل التاريخ على أنها أول لغة ألهمت إلى آدم عليه السلام وهو أول الأنبياء، بعث بها الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم وهو خاتم الأنبياء، وذلك دليل بين على أنها أفضل وأكمل، وأعلى وأولى.
وهنا نبحث عن فصاحة اللغة العربية وبلاغتها وامتيازها عن اللغات الأخرى وكونها لغة عالمية، وتركيب حروفها وكلماتها، وغيرها من مباحث متعلقة بها؛ لطمأنينة قلبية من أنها لغة لا تزال تفوق على اللغات الأخرى سواءً توجد هي في الحال أو تظهر في المآل، ولراحة نفسية من أنها لغة لا يمكن لأية لغة أن تدانيها فضلًا أو تساويها.
أثبتت الدلائل السابقة أن اللغة العربية ملهمة وتوقيفية متفوقة على اللغات الأخرى وإن لم يسلمه بعض علماء اللغة زعمًا منهم بأنها كلمات وصانعها البشر ثم تأخذ هذه الكلمات قالبها اللغوي ومع مرور الزمن تتشكل كلغة مستقلة، والعربية كذلك برزت إلى حيز الوجود.
فإن سلمنا قولهم وقارننا اللغة العربية بلغات أخرى فيتبين أن العربية على المستوى العالي من بين جميع اللغات في العالم؛ فإن المزايا التي توجد في الكلمات العربية لا يمكن أن توجد في كلمات لغة أخرى، كالجامعية والمانعية والحقيقة المعنوية التي تؤديها الكلمات العربية لا يجدها الإنسان في لغة أخرى، 108 وهنا نقدم بحوثًا 109 تثبت أن العربية لغة فائقة على جميع لغات العالم في الحال والمآل من حيث أسلوبها في التعبير والبلاغة والفصاحة وعلم المعاني وعلم الاشتقاق وما إلى ذلك من مزايا وخصائص.
اللغة العربية مركبة من حروف، ولكل حرف منها مخرج خاص يفصله عن الآخر، ويتضح من تركيب حروفها أن العربية قد استخدمت آلة الصوت وأحاطت بمخارج الحروف بشكل أروع وأجمل، وليس لها نظير في لغة مّا، مثل السنسكريتية التي هي لغة ممتازة تمتاز على اللغات العجمية عند علماء اللغة، فهي تحتوي على ثمانية مخرجًا بينما الإنكليزية المعاصرة تحتوي على اثني عشر مخرجًا، وأشهرها وأوضحها تسعة فقط، 110 وأما العربية فعدد حروفها الإجمالي تسعة وعشرون، وعدد مخارجها سبعة عشر، كالحلق فإنه مخرج قسمته العربية إلى الأقصى والوسط والأدنى، فلأقصى الحلق همز وهاء ثم لوسطه عين وحاء ولأدناه غين وخاء، 111 وكذلك الحروف الباقية سواءً كانت قريبة المخرج أو بعيدة المخرج فقد عينت لها العربية مخارج مستقلة، لتمتاز الذال من الزاء والسين من الصاد والتاء من الطاء، وذلك أي تعيين المخارج يفيد التمييز بين الحروف دون أية صعوبة كما أنه يفيد المعنى بكل وضوح دون أي اختلاط والتباس.
بعد أن عين العرب مخارج مستقلة للحروف الهجائية نظروا في هيئة تعرض لأداء الكلمات، ولاحظوها حسب كيفياتها وصفاتها فوجدوا في بعضها رخوة وفي بعضها شدة، وقسموا لذلك الحروف الهجائية إلى أقسام فكأن المخارج أصبحت بمنزلة الكمية والصفات بمنزلة الكيفية، ولكل منهما أقسام، ويتميز بهذا التقسيم كل حرف عن الآخر في الأداء والتلفظ، ويتبادر ذهن السامع إلى التمييز بينها كالزاء والذال والظاء والضاد والسين والصاد والثاء فإنها لاتلتبس على السامع بعد ما أديت مع رعاية مخارجها وصفاتها، وهذه الفروق اللغوية والمزايا الصوتية لا توجد في لغة أخرى حتى في لغة إنكليزية. 112
ومن جملة مزايا الحروف المركبة تركيبًا كميًا وكيفيًا أنها إذا أديت الكلمات العربية أداءً صحيحًا مع مراعاة المخارج والصفات ويسمعها السامع كذلك فتكون خطة رائعة بدقة، مثلًا كلمة تبدأ بالشين- وهي حرف توجد فيها صفة التفشي (هو انتشار الهواء في الفم بالشين عند النطق بها)- تدل على معنى الانتشار والامتداد حسيًا كان أو معنويًا:
الحرف | وجه المناسبة |
---|---|
الشباب | هو امتداد الأعضاء والزيادة في الحواس |
الشبر | هو امتداد اليد والأنامل |
الشِّحْنَة | الإحاطة بالبلد، والشحنة جماعة تحيط بالبلد |
الشجر | فيه انتشار الغصون |
الشبح | الظل وفيه الانتشار |
وكذلك الراء توجد فيها صفة التكرير، فكل كلمة تصدر بالراء فيكون في أدائها تكرار، وقس على هذا الحروف الباقية، فخلاصة القول أن السامع يتبادر ذهنه عند سماع الحروف العربية إلى معنى جامع ومانع، وهي ميزة تختص بها العربية فقط. 113
كما أن الإعراب والحركات الثلاثة تأتي على الكلمات العربية وفق الضوابط النحوية والقواعد الصرفية نحو الماضي والمضارع وغيرهما من أفعال وأسماء مشتقة من المصدر، فحركاتها تؤدي المعنى حسب تركيبها اللفظي، فالماضي مبني على الفتح... وحروف المضارعة مضمومة 114 أي: الحروف الأخيرة، ولما كان الفعل الماضي يفتح الأحوال الماضية ففتح آخره، وكذلك الفعل المضارع يضم الحال بالاستقبال فضم آخره بسبب هذا الانضمام بين الزمنين، ومناسبة الفتح بالمضي والضم بالمضارع تدل على المناسبة بين الكلمات وإعرابها من المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، مثلًا يرفع الفعل فاعله لارتفاعه من حيث أن الفعل يصدر عنه، وينصب المفعول لإظهاره أثر الفعل، والمضاف إليه يكون مجرورًا؛ لأنه يجر المضاف فصار مجرورًا، فيتضح من هذا التفصيل أن للحركات التي تأتي على الكلمات العربية حِكمًا وأسرارًا، ولم تأت أية حركة عفويًا تلقائيًا دون أي داع وسبب، وهي ميزة خاصة باللغة العربية فقط. 115
ومن أعظم فوائد مخارج وصفات الحروف أن العارف باللغة العربية يقدر على تمييز الفصيح عن غيره بسماع الحروف والكلمات، بخلاف اللغات الأخرى فإن التمييز فيها بين الفصيح وغيره لا يعرف إلا بأمثالها وتعبيراتها وغير ذلك من فنون أدبية، فهي ميزة من مزايا اللغة العربية حيث يميز سامعها إذا كان عارفًا بعلومها بين الكلمات الفصيحة وغيرها، مثلًا الكلمة الثلاثية تتألف من حروف مرتبة حيث تبدأ من الأعلى ثم الأوسط ثم الأدنى، وذلك يسهل في انطلاق اللسان بها، وانطلاق اللسان بها بكل سهولة يدل على فصاحة الكلمة، كـكلمة "عذب"، حرفها الأول "ع"، ومخرج العين الحلق وهو الأعلى، وحرفها الثاني "ذ"، ومخرج الذال حافة اللسان، وهو الأوسط، وحرفها الثالث "ب"، ومخرج الباء الشفتان، وهو الأدنى، فإن لم يعرف السامع معنى العذب ولا كون الكلمة بأنها فصيحة أو لا؛ لكنه يعرف المخارج والصفات فيتبادر ذهنه عند سماع الكلمة إلى كونها فصيحة أو ركيكة غير فصيحة، وهي ميزة خاصة باللغة العربية فقط.
وذكر الإمام السيوطي ميزة اللغة العربية ببسط وتفصيل، وملخص ما قاله هو إن كان الانتقال في الكلمة من الحرف الأول إلى الثاني في انحدارٍ من غير طَفْرة- والطَّفْرة: الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه- كان التركيبُ أخفَّ وأكثر، وإن فُقِد بأن يكون النقل من الأول في ارتفاع من طفرة كان أثقلَ وأقلَّ استعمالًا، والطفرة في اللغة "الوثبة"، وأما في الاصطلاح فهي "الوصول" إلى المخارج المتباعدة مع ترك المتقاربة المتجانسة، أي: الانحدار من الأعلى إلى الأدنى دون الأوسط أو من الأدنى إلى الأعلى دون الأوسط، وبناءً على ذلك رتب الفصاحة متفاوتة، فإن الكلمة تخف وتثقل بحسب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربًا أو بُعدًا فإن كانت الكلمة ثلاثيةً فتركيبها اثنا عشر:
الأول: الانحدارُ من المخرج الأعلى إلى الأوْسط إلى الأدنى نحو (ع د ب | الثاني: الانتقالُ من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوْسط نحو (ع ر د |
الثالث: من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو (ع م هـ | الرابع: من الأعلى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو (ع ل ن |
الخامس: من الأدنى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو (ب د ع | السادس: من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو (ب ع د |
السابع: من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو (ف ع م | الثامن: من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو (ف د م |
التاسع: من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو (د ع م | العاشر: من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو (د م ع |
الحادي عشر: من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو (ن ع ل | الثاني عشر: من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو (ن م ل |
فاللغة العربية- قبل أن تضع لحروفها الهجائية مخارج وصفات- وضعت أصولًا وضوابط لأدائها ثم تعينت لكل حرف صوتًا، وبعد ذلك أفاد المعنى وكونه فصيحًا أو غير فصيح، وتستفاد هذه الأمور من سماع الكلمات الثلاثية، وهي ميزة العربية؛ فإن اللغات الأخرى لم تتعين لحروفها مخارج وصفات حتى تستفاد منها من الفوائد ما تستفاد من اللغة العربية، فدلالة الألفاظ على المعاني بحيث يبرز الحرف الأول أعراض المعنى الأولية والثانوية ثم يدل تركيب الحروف على منزلتها من الفصاحة والبلاغة هي ميزة خاصة باللغة العربية.
المرحلة الثانية التي تأتي بعد فوائد مخارج وصفات الحروف العربية هي النسبة بين الصوت الخارج من الفم عند التلفظ بها وبين معانيها، وهي تضيف إلى تفوق اللغة العربية على اللغات العجمية، ولمزيد من التفصيل نقدم أمثلةً ثلاثةً في التالي توضيحًا وتبيينًا.
القد قطع الجلد وشق الثوب ونحو ذلك، 117 وأما القط فهو فصل الشيء عرضًا، والقطط: قططت الشيء أقطه، إذا قطعته عرضًا، 118 والفرق بينهما أن القد طولا والقط عرضا، وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعا له من الدال، فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض؛ لقربه وسرعته، والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولًا، 119 وكذلك خضم وقضم، فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك، وفي الخبر ((قد يدرك الخضم بالقضم))، أي: قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف. وعليه قول أبي درداء: يخضمون ونقضم والموعد اللّٰه. فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس حذوًا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث. 120
ومن بين هذه المناسبات النضح للماء والنضخ أقوى منه، فإن الحاء من الحروف المستفلة، فروعي في معناها الاستفال والانحطاط، بينما الخاء من الحروف المستعلية فروعي في معناها الاستعلاء والقوة فاستخدموا النضح للماء ونحوه والنضخ أقوى منه، قال اللّٰه سبحانه: فيهما عينان نضاختان، 121 فجعلوا الحاء لرقتها للماء الخفيف والخاء لغلظها لما هو أقوى منه. 122
ومن ذلك الشد والجر، فالشد مركب من الشين والدال، والشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشدّ والجذب وتأريب العقد، فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين، لاسيما وهي مدغمة، فهو أقوى لصنعتها وأدلّ على المعنى الذي أريد بها، والجر مركب من الجيم والراء، وقدموا الجيم لأنها حرف شديد، وأول الجر بمشقة على الجار والمجرور جميعًا، ثم عقَّبوا ذلك بالراء وهو حرف مكرر، وكررها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جُر على الأرض في غالب الأمر اهتزَّ عليها واضطرب صاعدًا عنها ونازلًا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق، فكانت الراء- لما فيها من التكرير؛ ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها في"جر"و"جررت"- أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. 123 فمن هذه الجهة انعقدت المناسبة بين الصوت الصادر عند التلفظ بالجر والمعنى المطلوب منه.
فالحاصل أن الصوت الصادر عند التلفظ بالشد والجر يلائم المعنى المطلوب وأثره في نفس الأمر والواقع، فمن أحسن مزايا اللغة العربية أن يطابق صوت الكلمة بمعناها المطلوب، وذلك دليل بين على أن الحروف العربية والكلمات المركبة منها تحمل بحرًا ذخارًا من المعاني والمفاهيم التي لا يمكن الوصول إليها للعقل الإنساني إلا بجد واجتهاد، ومن ثم لا يمكن للعجمي أن يعبر ما في قلبه بلغة عجمية كما يعبر عنه بالعربية.
من خصائص اللغة العربية أن يصل أثر الصفة الكامنة في الحرف إلى المعنى، كما أن الاختلاط بين اللونين يشكل لونا ثالثًا كذلك يتأكد المعنى بالاشتراك بين الحرفين ويصير أقرب وأسرع إلى الفهم، أما المعنى التام فلابد لذلك من استمداد حرف ثالث، كما أن الشيء المعين في الخارج يحتاج في وجوده إلى الجنس البعيد والقريب والفصل كذلك الحرف للمادة بمنزلة الجنس البعيد والثاني بمنزلة القريب والثالث بمنزلة الفصل، ولمزيد من التفصيل نذكر مثالًا على سبيل المثال:
إن الإنسان نوع، وعرفه المناطقة بأنه حيوان ناطق، فلو عرفه أحد بأنه جسم نامي لكان تعريفه ناقصًا وغير واضح، كذلك المادة الأصلية للكلمة العربية يكون معناها مهملًا وغير واضح ما لم يتصل الحرف الثاني بالأول أو الثالث بالأولين، مثلًا إن كان الحرف الأول من المادة "القاف"، فيمكننا أن نقول- نظرًا إلى صفاتها- بأنه يحمل القوة في معناه؛ لكن لا تتضح هذه القوة إلا باتصال الحرف الآخر معه، ولما اتصل به الحرف الآخر فيكون بمنزلة تعريف الإنسان بالحيوان فقط، أي: إن لحقت الطاء بالقاف فيضاف معنى القطع إلى القوة، ويتأتى أن القوة بلغت في شدتها إلى القطع؛ لكن الحقيقة ما زالت خفيةً حتى يتصل بهما الحرف الثالث، ولما اتصل بهما الحرف الثالث فيظهر المعنى التام بكل وضوح كأن يعرف الإنسان بالحيوان الناطق وهو الماهية المميزة لنوع الإنسان عن الأنواع الباقية كالحيوان المفترس والحيوان الصاهل والحيوان الناهق.
فإن أبرزت صفات الطاء والقاف شدةً وقوةً ثم تعين أن الكلمة المركبة منهما تفيد معنى القطع فلا بد من الوصول إلى كيفية القطع من انضمام حرف آخر، وهذا الحرف الأخير يميز نوعًا عن الآخر، وإليكم على سبيل المثال:
قطع | أي قطع الشيء قطعة | قطب | جمع الشيء بعد قطعه |
قطم | هو العض بالأسنان | قطل | قطع الشيء عن الأصل: استئصاله |
قط | قطع الشيء عَرْضًا | قطف | الخداش |
فالحرف الثالث في الكلمات الستة المذكورة ميّز كيفية القطع عن الآخر وأوضح مفهومه المطلوب، ونبحث فيما يلي عن تفصيل كل كلمة ومعناها:
"قطع" الحرف الثالث في هذه المادة العين، وهي توافق القاف في جميع صفاتها من المجهورة والشديدة والمستعلية والمنفتحة والمصمتة والقلقلة غير المستفلة التي تخالف المستعلية، وأما العين فهي متوسطة ليست فيها شدة ولا رخوة، فقد أفاد ائتلافهما معنى القطع قطعةً واحدة.
"قطب" الحرف الثالث في هذه المادة الباء، وهي كالعين في موافقة صفاتها للقاف غير المستفلة والمذلقة اللتين تخالفان المستعلية والمصمتة؛ لكن ازدادت في القاف شدتها وجهرها زيادةً يسيرةً، فأفاد معنى القطع بتمامه إلا أن الباء لما كانت من الحروف الشفوية فأفاد معنى الجمع بعد القطع.
قطم" الحرف الثالث في هذه المادة الميم، وهي أيضًا كالعين في موافقة صفاتها للقاف غير المستفلة والمذلقة اللتين تخالفان المستعلية والمصمتة إلا أن الميم متوسطة فتمنع أثر شدة الشديدة، ولما كانت من الحروف الشفوية فأفاد الأخذ والقطع بالأسنان.
"قطل" الحرف الثالث في هذه المادة اللام، وصفاتها الخمسة صفات الميم التي هي المجهورة والمتوسطة والمذلقة والمنفتحة والمستفلة، والصفة السادسة هي المنحرفة التي ينحرف فيها اللسان، فتقتضي انحرافًا بينًا في المعنى، ومن ثم أفاد معنى القطع من الأصل وهو الاستئصال.
"قطّ" وأصله قطط، أدغمت الطاء الثانية في الأولى، فصار قطّا أي مشددة، والطاء توافق القاف في جميع صفاتها، إلا أن الطاء تفوق درجةً على القاف لصفتها الإطباق وهو يستلزم الاستعلاء، ولما لحقت بالطاء طاء أخرى فازدادت قوتها وشدتها، فأفاد معنى القطع عرضًا؛ فإن القطع عرضًا يقتضي قوة قوية.
قطف" الحرف الثالث في هذه المادة الفاء، وهي تخالف الطاء والقاف في صفاتها، فإن المهموسة والرخوة والمنفتحة والمذلقة تخالف المجهورة والشديدة والمستعلية والمصمتة، ولما اجتمعت الحروف المتضادة في الكلمة الواحدة فاقتضت أن يكون القطع أخف وأضعف، فأفاد معنى الخداش، وهو وصول الأثر إلى الاحتكاك. 125
دلت الأمثلة المذكورة على أن العربية لغة منظمة منسقة وكلماتها مركبة تركيبًا أنيقًا كما تدل على أن الكلمة العربية لا تفيد المعنى إلا إذا كانت ثلاثيةً.
لما كانت المادة الأصلية في اللغة العربية تفيد المعنى المطلوب بعد تركيبها من الحروف الثلاثة كما اتضح من الأمثلة المذكورة، فقال المستشرق الشهير جرجي زيدان: إن الثلاثي في الأصول أيضًا مزيد، والأصل فيه ثنائي غالبًا، 126 وهو قول ضعيف ورأي ركيك؛ فإن أبنية الأسماء والأفعال لا تقل عن الثلاثي أبدًا، فأبنية الأسماء ثلاثي ورباعي وخماسي، 127 وأبنية الأفعال ثلاثي ورباعي، 128 وأما ما ذكره الإمام خليل من أن أبواب الثنائي الصحيح 129 فهي في الحقيقة ثلاثية، وقد اتفق علماء العربية على أن المادة تتركب على الأقل من ثلاثة حروف أصلية، والحرف الثالث جزء أصلي كالأولين، وبسبب اتصاله بهما يتغير معنى كل كلمة عن الآخر.
تقريبًا للفهم نقدم على سبيل المثال ما ذكره الفلاسفة، وهو أنهم قسموا العلة إلى أربعة أقسام: العلة المادية والعلة الصورية والعلة الفاعلية والعلة الغائية، ولابد لكل من هذه العلل في شيء معين واقعي، فإذا وجدت العلة المادية ثم انتفت الصورية فانتفت الفاعلية والغائية أيضًا، وتبقى المادة فحسب، كالخشب فإنه لو لم يصنع منه الكرسي أو الطاولة فبقي خشبًا، أو كالطين فإنه لو لم يصنع منه الكأس أو الكوب فبقي طينًا، ولا تكون لهما حينئذٍ أية فائدة في أدوات منزلية، نعم! إذا صنع من الخشب أو الطين الكرسي والطاولة أو الكأس والكوب فتجتمع العلة الصورية مع المادية فتزيد الحياة البشرية راحةً وجلاءً، وهي العلة الغائية، فالحروف العربية بمنزلة العلة المادية التي تتغير في صور مختلفة بمنزلة العلة الصورية، وتفيد المعاني المختلفة وهي العلة الغائية، فالخشب إذا كان مجرد خشب فلا يطلق عليه الكرسي ولا الطاولة أما إذا صنع منه كرسي أو طاولة فيطلق عليه ما صنع منه، فكذلك "ض ر ب" مادة أصلية لا يتلفظ بها كالضرْب وهو المصدر ولا ضَرَبَ وهو الفعل الماضي، قبل تركيبها الصوري، فهي مادة محضة وحروف أصلية، فلما اجتمعت هذه المادة مع الصورة فحينئذٍ يكون مصدرًا وماضيًا ومضارعًا، وتشتق منها أسماء وأفعال أخرى كما تصنع من الخشب الطاولة والسرير والكرسي وغير ذلك. 130
وهنا نشير إلى نقطة مهمة وهي أنه ليس من المعقول أن يقول أحد بعد ما يرى الكرسي والطاولة أن لا فائدة فيهما بدليل أن الخشبة ما زالت خشبة وإن تغيرت في صور مختلفة كما أن المادة وإن أفادت معاني ومفاهيم متعددة بعد ما طارت عليها صور مختلفة ليس بأمر يلتفت إليه، ولا طائل وراء ذلك، فلا يمكن أن يختلج في العقل السليم أمر كهذا، فاختلاف صور الحروف الأصلية التي تفيد العقل الإنساني معاني ومفاهيم متعددة بمنزلة اختلاف صور الخشب كالكرسي والطاولة والسرير التي تفيد الإنسان والمجتمع البشري، ولا يمكن هذا إلا إذا كانت المادة مركبةً من الأحرف الثلاثة وإلا فلا تتعين الصورة الشخصية للمعني بعد تعين الصورة النوعية كما لا يمكن تعيين الصورة الشخصية للخشبة والطين.
ومن الجدير بالذكر أن نقدم تفصيل المغالطة قبل النقد عليها لتتبين خصائص اللغة العربية مع تقريب الفهم إلى الإيرادات الواردة على العربية والإجابة عنها فيقول جرجي زيدان:
القطع وهو متخلف عن قط حكاية صوت القطع وعام في سائر لغات العالم، ففي اللاتينية coedo وفي الإنكليزية cut وفي الفرنساوية casser ونحو ذلك في سائر اللغات الأردية، وفي الصينية (كت) وبالمصرية القديمة (خت) وفي العربية (قط أو قص أو قطع)، ومن هذا القبيل أكثر الأفعال المختلفة عن حكاية الأصوات الطبيعية مثل طفأ ونفخ وغيرهما. 131
يقصد جرجي زيدان بأن ألفاظ اللغة العربية أيضًا تأثرت من الحكاية الصوتية مثل سائر لغات العالم، فإن ألفاظها متشابهة بعضها ببعض كما ذكر في موضع آخر:
"يرى الباحث في دلالة ألفاظ العربية المدعوة مجردة أن للمعنى الواحد ألفاظًا عديدةً تتقارب لفظًا، ويمكن تقسيم ألفاظ المعنى الواحد إلى مجموعات تشترك ألفاظ كل مجموع منها بحرفين هما الأصل المتضمن المعنى الأصلي، والزيادة ربما نوعته تنويعًا طفيفًا مثاله: قط وقطب وقطف وقطع وقطم وقطل جميعها تتضمن معنى القطع إلا أن كل واحدة منها استعملت للتنوع من تنوعاته فالثاني والثالث يتضمنان مع القطع معنى الجمع والخامس العض والسادس الشدة والأصل المشترك بينها قط وهو بنفسه حكاية صوت القطع كما لا يخفي... فترى في ما تقدم من الأمثال أن الحرف المزيد واقع في آخر الكلمة وهذا هو الأغلب إلا أنه قد يكون في الوسط أي: بين الحرفين الأصليين كشلق من شق وفرق من فق، وقد يكون في أول الكلمة نحو رفت من فت ولهب من هب ورفض من فض". 132
فنصه الأول يصرح على أن المادة الأصلية في العربية ثنائية والحرف الثالث زائد يجعل نوعًا ناقصًا في بعض الأحايين، أما نصه الثاني يدل على أن القول بالمجرد الثلاثي في العربية خطأ، فإنه في الحقيقة ثنائي ازداد فيه حرف في أوله أو وسطه أو آخره، وليست هناك قاعدة تميز الحروف الزائدة من الأصلية، وذكره في كتابه مناسبةً معنويةً بين الحروف ومعانيها وأصواتها فقال:
"ومن غريب الأبدال أن تكون "يد" و "قط" أو إحدى أخواتها من أصل واحد، ولا ننكر ما في ذلك من دواعي الاستغراب ولكن الدليل يقرب البعيد؛ فإن القرب بينهما في المعنى واضح لأن اليد هي مصدر القطع وأول استماع الانسان حكاية صوت القطع إنما كان بواسطتها فلا غرو اذا استعمل ذلك الصوت للدلالة عليها ونسبة اليد للقطع معني كنسبة قاطع إلى قطع ولا يخفى ما هنالك من المشابهة، وأما في اللفظ فإننا باستقراء أصل كلمة يد في اللغات السامية أخوات العربية ترى أنها قريبة جدًا من قط، فإنها في الآشورية "غت" وفي البابلية "كت" وهي حكاية صوت القطع بعينه 133... ويجانس قط قص ويجانس قص قض ويجانس قص كس ويجانس قص أيضًا جذ ويجانس جذ جز وجميعها من باب القطع 134 ... فترى معنى القطع في جميع هذه التنوعات وقد تراه بعيدًا في غيرها ومفقودًا في بعضها، فإن "خص" تفيد معنى الإفراد بالشيء فترى معنى القطع فيها مجازيًا فكأنه يقول: خصه بالشيء أي قطعه عن سواه 135 ... هذه تنوعات من فرع واحد من تفرعات قط، فقس عليه ما بقي منها واجمع تر أنها تفوق الآلاف عدًّا. 136
فغرضه الأساسي من تقديم فلسفته التي عرضها في كتابه أنه يتهم العربية بضيق نطاقها وأنه يثبت أن العربية مركبة من عدة كلمات أصلية وليست هي عربية محضة قحة بل هي مستعارة من اللغات السامية، ومخلص بحثه أن اللغة العربية تركبت وتألفت من مختلف اللغات السامية القديمة كاللغة الأردية التي تألفت من اشتراك لغات عديدة فليست للعربية أية ميزة وخاصية إلا أن العرب يرجع إليهم الفضل في أنهم أخذوا لفظًا واحدًا من لغة وصرفوه في مختلف التصاريف واشتقوا منها أسماءً وأفعالًا، فرآها الناس في بادء النظر أنها متصفة بغزارة الألفاظ، والحقيقة أن كثرتها ترجع إلى الوحدة، فليست هي لغة مستقلة برأسها. 137
إن أراد جرجي زيدان ضيق نطاق العربية بهفواته وخرافاته السابقة فلا بد أن يختار لذلك أسلوبًا أحسن من هذا ويقول: إن عدد الحروف الهجائية في العربية ثماني وعشرون حرفًا، والحركات مع السكون أربعة، أي: الضمة والفتحة والكسرة والسكون، ومن الواضح أن الكلمات وإن كانت بمقدار ملايين إلا أنها مؤلفة من نفس هذه الأبجدية وأشكال الكلمات أيا كانت بسبب طرأ الحركات والجزم عليها فهي لا تخلو عن هذه الأربعة، فلو اتهم العربية من هذه الجهة لما احتاج إلى ذكر مقدمات من أنها حكايات صوتية ومنقولة عن اللغات السامية والآشورية حتى جعلها قضيةً لإثبات مدعاه. 138
أما قول جرجي زيدان بـ " أن اليد هي مصدر القطع وأول استماع الانسان حكاية صوت القطع إنما كان بواسطتها فلا غرو اذا استعمل ذلك الصوت للدلالة عليها ونسبة اليد للقطع معني كنسبة قاطع إلى قطع ولا يخفى ما هنالك من المشابهة" فمسلم؛ ولكن إن لم تكن آذان فكيف يسمع الصوت؟ ولو لم يكن لسان فكيف السبيل إلى الحكاية؟ ولو لم تكن الأصابع في اليد فكيف تعمل اليد؟ ولو لم تكن ليونة ومرونة في العضلات والعروق فالأصابع معطلة، ولو لم تكن في العقل الإنساني قوة خيالية فكيف السبيل إلى إرادة القطع؟ وقس على هذا، فيمكن أن يقال حول أي عضو إنساني بأنه يقطع، فيطلق عليه "قط" نظرًا إلى أنه عضو قاطع، ولا مجال للاعتراض على هذا المدعا؛ لعدم وجود أي أصل يعين قلب الحروف أو الزيادة والنقصان فيها، فإن البحث ليس عن اللغة بل عن فلسفتها. 139
والأمر الثالث أن ضجة الحضارة والثقافة والحوارات والمناقشات الساخنة في الأوساط العلمية سراب لا يساوي صفرًا؛ فإن أصل الحضارة-كما انكشف بعد رؤية الدول والأمم المتمدنة المثقفة- هي الجمادات والنباتات والحيوان وكل ما نراه في العالم من تقلبات هذه الثلاثة، فالأطعمة المتنوعة هي أشكال متغيرة للنباتات والحيوان، والأشياء المختلفة هي صور من جلود الحيوانات وصوفها رغم أن الباحث ينظر بعين الحقيقة أن أصل المادة هو الجلد والصوف، بل فوق ذلك، لو أمعنت النظر في المختبرات الفيزيائية والكيميائية لرأيت كل ما فيها تقلبات الجماد والنبات، مثل تاج محل فهو حجر وجص فقط، فهل يمكن لعالم متحضر مثقف أن يقول لرجل وحشي بدوي: إن تدرج المواليد الثلاثة (الجماد والنبات والحيوان) وتدرج العناصر الأربعة (النار والهواء والطين والماء) من النافع إلى الأنفع عبارة عن العلم والمعرفة، والاستفادة من ثمرات ونتائج هذا العلم حضارة وثقافة؟ فإن كانت إجابة الحضريين والمدنيين هذه صحيحة فالإجابة عن اللغة العربية بالطريق الأولى بأن وضع الكلمة في قوالب مختلفة واشتقاق الأسماء والأفعال والصلات منها لإفادة المعاني والمفاهيم حضارة اللسان وثقافة البيان، والقول بأنه ضيق نطاق اللغة لا يخلو عن الجهل والسفه. 140
فانكشفت بالإجابة الإلزامية الحقيقة عن نصوص جرجي زيدان من أربعة إلى سبعة نصوص، وأما النصوص الباقية من واحد إلى ثلاثة فنجيب عنها إجابةً تحقيقةً.
العجب كل العجب على إنكار جرجي زيدان- وهو في زعمه لغوي أديب وعلى مقام علمي عند المستشرقين- عن أمور لغوية مسلمة وبديهية، ولم يسبق إليها أحد من السلف والخلف حيث قال: إن الثلاثي أيضًا مزيد والأصل فيه ثنائي غالبًا، 141 وهو أصل بديهي أن أبنية الأسماء ثلاثي ورباعي وخماسي، 142 وأبنية الأفعال ثلاثي ورباعي 143 في اللغة العربية؛ لكنه قال بكل صراحة: تشتمل هذه الألفاظ على الاسم والفعل وما يشتق منهما، واللغويون يردون كلا من الاسم والفعل إلى أصول معظمها ثلاثية وبعضها رباعية، ولا يرون هذه الأصول قابلةً للرد إلى أقل من ذلك وعندي أنها قابلة ولو بعد العناء، 144 بينما الحروف الأصلية كيف تتميز عن الزائدة فلم يبین لذلك، مع أن اللغوين وضعوا أصلًا أصيلًا تتميز به الحروف الأصلية عن الزائدة لدى الطالب المبتدي كما ذكره ابن الحاجب في الشافية. 145
أما بالنسبة إلى مباحثه عن كلمة "قط" فيرى كأن الحرف الزائد عنده حرف لم يتلفظ به في الحكاية بعد تطبيق اللفظ بالصوت، وليس ذلك بأصل ولا قاعدة بل هي خرافة أو كلام هراء؛ فإن الكتب اللغوية لا تدل على لفظ مركب من القاف والطاء أي ليس في العربية بأكملها لفظ مؤلف من حرفين فكيف عن معنى مثل هذا اللفظ؟ نعم! إذا لحق الحرفين حرف ثالث فيوجد اللفظ مع دلالته على معناه في الخارج كوجود الحيوان مع أنواعه في الخارج وإلا فمفهوم مجرد كلمة "الحيوان" لايوجد إلا في الذهن، وذلك إلى حد بأنه حيوان متحرك بالإرادة، وإذا لحقه فصل من الناطق أو الصاهل أو المفترس فوجد الحيوان المعهود في الذهن والخارج كليهما على ترتيب اللف والنشر في صورة وجود الإنسان والفرس والأسد، والأمر هنا ليس بمختلف عن ذلك، فإن وجود القاف والطاء في اللغة بحاجة ماسة إلى الحرف الثالث كما يحتاج الجنس في وجوده الخارجي إلى الفصل. 146
كلمة "قط" استخدمه جرجي زيدان كثنائية اتهامًا بالعربية رغم أنها كلمة ثلاثية؛ فإنها مركبة من الحروف الثلاثة، القاف والطاء والطاء الثانية، والتلفظ بها أيضًا مع التشديد أي "قطّ" كما يتلفظ بكلا الطائين في المواد الأخرى نحو قطاط كشداد أي: الخراط صانع الحقق، أو الشديد الجعونة، 147 وقطاط كقطام أي: حسبي، 148 فالقول بأن "قط" ثنائي غدر بالعربية وخداع للأعاجم كما أن القول بأن "قط" يجانس "قطف" و"قطب" وغيرهما من الألفاظ 149 سراب لايساوي صفرًا؛ فإن الحرف المشدد أي "الطاء" لم ترد في كلتا الكلمتين، فظهر أن "قط" حروفها الأصلية ثلاثة، وهي حكاية لصوت القطع، فالقول بأن المادة الأصلية ثنائية خطأ بين فاحش، وحجة باهرة على الجهل من القواعد اللغوية والعربية.
قد اختار جرجي زيدان موقفه تجاه قوله بأن "قط" ثنائي لعدة أغراض.
الأول: أن يسلم بأن اللغة العربية نشأت على أساس الحكاية الصوتية لئلا تمتاز من اللغات الأخرى ولا تفوق عليها.
الثاني: قلة المادة الأصلية تدل على كون اللغة العربية ناقصة غير تامة كما تنتقص الأجسام بدون صورها النوعية؛ ليكن كمال العربية مبهمًا ويجعل نورها ظلمةً لتتساوى مع اللغات العجمية حتى لم يبق لها الفضل والكمال.
الثالث: أراد أن يثبت قلة المادة الأصلية من الحروف الثلاثة ليقول الأجيال القادمة بأن اللغة العربية أثر ناقص للغة كاملة ثلاثية؛ فإن سلسلتها الأخيرة مفقودة ساقطة. 150
من أجل أن يحقق أغراضه المذكورة حاول محاولةً فاشلةً من خلال تقديم مغالطته الثنائية بداهة حيث قال في بداية الأمر: إن "قط" صوت القطع، ثم قال: إن الألفاظ الثلاثية التي أولها القاف وثانيها الطاء ثالثها زائد وكلها بمعنى القطع كقطب، وقطف، وقطع، وقطم، وقطل، وغيرها من الألفاظ، ويريد بذلك أن كلها في الأصل "قط" زيد فيها حرف، 151 لكنه لما أقبل على كلمة "قطن" ووجد فيها الحكاية الصوتية لكن فقد معنى القطع، فلم يذكرها، ثم ذكر كلمة جذّ، وقصّ، وعضّ، وجزّ التي يوجد فيها معنى القطع؛ لكن فقدت صورة "قط" فقال: إنها تجانس قط، فتدل- حسب رأيه- على معنى القطع كأنه وضع أصلًا بأن كل كلمة تحاكي صوت "قط" أو تجانسها تدل على معنى القطع، فواجهته المعضلة الحائرة عندما قام بوضع المعيار لأصله، لو جعله صوتًا حكائيًا لفقد المعنى، ولو جعله معنى لفقد الحكاية الصوتية، ثم قام بإحكام أصله حيث اضطر إلى إثبات أصله بالمعاني المجازية حتى انتهى إلى كلمة "خصّ" أي: كلمة "خصّ" أيضًا تفيد معنى القطع؛ لكنه لما اطلع على الألفاظ المجانسة كـ غمّ، وهمّ، ومسّ، وشمّ، وسبّ، وحضّ، وحثّ، وغيرها التي هي على وزن خصّ إلا أنها لاتدل معنى القطع فلم يبق أصله جامعًا ومانعًا، وإضافةً إلى ذلك قد ذهب إلى أن "خصّ" تدل على معنى القطع وإن كان مجازيًا؛ لكنه لم يلتفت إلى ضدها "عمّ" لفتةً، فما قولك عن هذا الفلسفي اللغوي؟ قال: إن أساس وضع الألفاظ على الحكاية الصوتية ففقد المعنى كقطن، ولما لم يلتفت إلى قطن، وذكر "جذّ" وغيرها من الألفاظ الدالة على المعنى؛ لكنه فقد الحكاية الصوتية، فاستند إلى المعاني المجازية فواجهته ألفاظ أخرى كغمّ وهمّ وغيرهما، وهي تجانسها؛ لكنه فقد المعنى، وكل محاولاته ترجع إلى اختراع نوع ثنائي جديد، ورفض النوع الثلاثي المجرد، وإدخاله في الثلاثي المزيد فيه، وإظهار التفلسف في اللغة، وإعادة كلمة "قطّ" مرارًا في صفحات متعددة، وكل محاولاته واختراعاته سراب لا يساوي صفرًا، لم يضع أي أصل مميز بين الثنائي المجرد والثنائي المزيد فيه. 152
جرجي زيدان اعتبر الألفاظ المشتقة من الثنائي المجرد ألفاظًا ثنائيةً مزيدًا فيها؛ لكنه لم يتمكن من وضع قانون يميّز الحرف الزائد من الأحرف الأصلية، واتضح من ذلك أنه سلك مسلكًا لم يسلكه القدماء، وأنه أسّس أصوله على أساس خطأ خطّاه كما اتضح منه أنه كان جاهلًا عن الأصول اللغوية والقواعد العربية، وكذلك اعتراضاته الأخرى ثمرة الجهل وعدم المعرفة، وعلى عكس ذلك نقدم بحثًا حثيثًا عن الألفاظ المذكورة يوضح خطأ جرجي زيدان، وتتضح منه مزايا العربية وتدل على معاني ومفاهيم الألفاظ بدقة دقيقة.
إذا اجتمعت في الكلمة حرفان شديدة القوة وهما القاف والطاء فيفهم منها كمال القوة وعبر عنه بالقطع، أي: مهما اجتمعتا في كلمة فمعناها القطع، والقط: قطع الشيء الصلب، 153 فالنسبة بين "قطّ" والقطع عموم وخصوص مطلقًا، فكلما وجدت "قطّ" وجد القطع أيضًا، وليس كلما وجد القطع وجدت "قطّ" أيضًا، فلا يلزم أن جذّ وقصّ والألفاظ الأخرى تدل على القطع وإن كانت تجانس قطّ، وكذلك لا تمس الحاجة إلى دلالة الألفاظ المجانسة لـ"قطّ" على القطع دلالة مجازية، نعم! لا بد من إلقاء الضوء على أن القطع كيف يمكن وجوده بدون "قطّ"؟ ولا بد لفهم ذلك من الاطلاع على صفات الحروف فحسب، على الرغم أن تلاحظ كيفية الأشياء المقطوعة، منها صلبة شديدة ولينة ناعمة، ومنها ناضرة طازجة وجافة يابسة، ثم لهذه الكيفيات مراتب مثلًا الحجر صلابته أشد من صلابة الخشب، والعنب أكثر طراوة من البطيخ، وكذلك كيفيات القطع إما أن يكون القطع طولًا أو عرضًا، وإما أن يقطع جزء من الشيء أو يقطع من الأصل، ولكل من هذه الكيفيات المختلفة تعبيرات وعبارات مختلفة في اللغة العربية التي توصلها إلى أوج الكمال. 154
إن الألفاظ التي بحث عنها جرجي زيدان هي قطّ، وقد، وقطع، وقطف، وقطم، وقطل، وقصّ، وجذّ، وجزّ، وعضّ، وقضم، فبحث عنها مع ألفاظ أخرى إثباتًا لمدعاه فنعرض الصفح عنها؛ فإنه لا طائل تحتها، وقد بسطنا الكلام آنفًا في الألفاظ كلها إلا قصّ، وجذّ، وجزّ، وعضّ، فنبحث عنها فيما يلي.
الحرف الأول من "قصّ" القاف، ومن "جذّ وجزّ" الجيم، ومن "عضّ" العين، وكل من القاف والجيم والعين مشتركة في الصفات وهي الجهر والشدة والانفتاح والإصمات والقلقلة إلا أن الجيم والعين تشتركان في صفة الاستفال التي تخالف الاستعلاء، 155 فهما تضادان القاف في هذه الصفة؛ لكن هذه المغايرة لا تقضي على قوة الجهر والشدة والقلقلة وإن ضعفت لكون العين من الحروف المتوسطة، أما جزّ وجذّ ففيهما الزاء والذال، وهما من الحروف المجهورة وفيهما الرخوة أيضًا كما أن الزاء من الحروف الصفيرية؛ 156 لكن الرخوة تشتد بسبب ادغامهما فيما بينهما كاشتداد الحبل بالفتل، وأما "قصّ" فالحرف الثاني فيه الصاد، وفيها من صفة الرخوة الصفير والمهموسة، وأما "عضّ" فيها الضاد، وهي من المجهورة والرخوة، 157 وتتقوى بسبب ادغامهما فيما بينهما، 158 وإليكم التفصيل عن كل لفظ على حدة في السطور القادمة.
"قصّ" كان في الأصل "قصص"، ثم أدغمت الصاد في الصاد فصارت "قصّ"، وأما معناه فقال الليث: القص أخذ الشعر بالمقص، وقال الهروي: أصل القص القطع، 159 فالقاف من المجهورة والصاد من الرخوة، 160 والقاف قوية والصاد تتقوى بالتشديد، فظهر من هذه الصفات أن "قصّ" لأي معنى وضع، ثم صفة الصفير في الصاد تحاكي صوت قطع الأشعار والصوف بالمقص. 161
تحقيق"جز"
"جزّ" كان في الأصل "جزز"، ثم أدغمت الزاء في الزاء فصارت "جزّ"، ومعناه البر والنخل والصوف من باب ردّ، و المجز بالكسر ما يجز به، وهذا زمن الجزاز بفتح الجيم وكسرها أي: زمن الحصاد وصرام النخل، 162 فالجيم حرف قوي، فيها صفة الجهر مع الشدة، وفي الزاء الجهر مع الرخوة، 163 وصوت قطع الحصاد أظهر من صوت قطع الأشعار، نعم! يحتمل كل من الحصاد والأشعار ليونة ورخوة، فمناسبة اللفظ بالمعنى بينة كما تظهر كيفية هذا الصوت من صفة الصفير في الزاء أيضًا. 164
"جذّ" كان في الأصل "جذذ"، ثم أدغمت الذال في الذال فصارت "جذّ"، فالجيم حرف قوي، والذال من المجهورة والرخوة، 165 ومن أجل ذلك يعبر قطع الشيء الصلب بـ "جذّ" كما قال الليث: الجذ: القطع المستأصل الوحي، والكسر للشيء الصلب. 166
و"عضّ" كان في الأصل "عضض"، ثم أدغمت الضاد في الضاد فصارت "عضّ"، والعض وهو القطع بالأسنان، 167 والعين مجهورة متوسطة بين الشديدة والرخوة بينما الضاد فيها صفة الجهر والرخوة، ويتدهش العقل الإسناني- نظرًا إلى آلة القطع والشيء المقطوع- من وضع اللفظ لهذا المعنى بعد رعاية صفات العين والضاد، وكل من اللفظين المذكورين يدل على معنى خاص مع كيفية خاصة، وذلك حجة باهرة على فضل اللغة العربية وكمالها، ومن الجدير بالذكر أن هذه الألفاظ مع أخواتها المتنوعة حكايات صوتية حقيقية لمفاهيمها الخارجية، أما ما قدمها جرجي زيدان من الأمثلة للحكايات الصوتية فلم تصح المحاكاة فيها؛ لأن صوت المحكي عنه يختلف عن صوت الحكاية تمامًا، فلو أراد أحد أن يرى مثال المناسبة الصحيحة بين الحكاية والمحكي عنه فليسمع بقوته السامعة تلفظًا صحيحًا للألفاظ المذكورة فيعرف معرفةً تامةً أن كل لفظ يناسب صوته، فالفرق بين قطع اللين والشديد أو الجاف والناضر يظهر من التلفظ بالألفاظ الموضوعة لهذه المفاهيم، والمناسبة اللفظية والمعنوية التي توجد في الحروف والمعاني توجد في الحكايات الصوتية ما لم تمر ببال جرجي زيدان. 168
قد يرد إشكال على كلمة "قطن"، وقد أغمض عنه جرجي زيدان حيث لم يلتفت إليها لفتةً عند ما خاض في بحث القاف والطاء، 169 ولابد أن تفيد معنى القطع بسبب اجتماع القاف والطاء فيها كما مر في الأمثلة السابقة آنفًا؛ فإن القط- وهو مجموعة القاف والطاء- هو قطع الشيء الصلب 170 رغم ذلك لم يتضح فيها معنى القطع، وتفصيل ذلك أن أثر القاف والطاء جلي واضح لوجود ماهية القطع في القطن إلا أن هنا فرق طفيف وهو أن الأشياء المقطوعة الأخرى تحتاج إلى قاطع في الخارج أما القطن فليس له قاطع في الخارج بل قاطعه هو هو، فالشجرة التي تنتج القطن على أقسام، منها أشجار أرضية أي: دانية إلى الأرضية، ومنها أشجار طويلة كقد الإنسان ومنها أشجار باسقات أنيقة، وجميع أنواعها تشترك في أمر، وهو أن الثمرة التي فيها القطن مغلفة بغطاء، ولما نضج القطن فيها وطزج فيخرج القطن بشدة شديدة تشق الغطاء كقطع الآلة الحادة شيئًا، وأيضًا من صفة النون الغنة ومخرجها الخيشوم رغم أنها مجهورة ومتوسطة، فلحوقها بالقاف والطاء يشير إلى أن القطع في القطن أثر داخلي كالتلفظ بالنون وتأديتها من الخيشوم وهو داخل الأنف، فعلم من هذا أن القطن يفيد معنى القطع وإن كان خفيًا كما ظهر منه بكل وضوح أن الألفاظ الموضوعة للأشياء في اللغة العربية لها علاقة قوية بالحقائق الخارجية، وإضافةً إلى ذلك أن أصوات الحروف المركبة منها الكلمات أيضًا تلائم الأفعال الخارجية، فوضع الألفاظ على أصل الحكاية الصوتية وإن كان موقفًا خاطئًا؛ لكن لو رآه جرجي زيدان فضلًا وشرفًا للعربية فهو أتم وأكمل. 171
ظهر مما مرت من البحوث أن موقف جرجي زيدان تجاه قوله بأن المادة ثنائية خطأ واضح، والكلمة التي استدل بها على سبيل المثال إنها في الحقيقة ثلاثية كما قدم الكلمات الأخرى ظنًا أنها أيضًا تفيد معنى القطع وفق أصل الحكاية الصوتية إنها أيضًا لها حقائق وماهيات مستقلة اتضحت في السطور القادمة آنفًا، فملخص الكلام في هذا المقام أن المادة لابد أن تكون ثلاثية لإفادة المعنى وإلا فلا يتصور المفهوم تامًا ومتعينًا، وهي ميزة للعربية التي يستبعد وجودها في اللغات الأخرى، وذلك دليل باهر على أن العربية لغة ممتاز فائقة مع كونها مبينًا للحقائق الأشياء الخارجية بطريق أحسن، ومن ثم تطلق عليها اللغة المبينة.
وميزة العربية هذه- تبيين حقائق المعاني والمفاهيم- من أفضل وأكمل المزايا، فإن كانت الكلمة العربية مستعملةً غير مهملة فلا يفارق معناها ولا ينفك عنها ولو صرفت فيها تصاريف وتبدلت من صورة إلى صورة، وقد أطلق عليه علماء اللغة المتأخرون الاشتقاق الأكبر المختص بالعربية، وتفصيل ذلك أن المادة الأصلية إذا كانت ثلاثيةً على الأقل فتدل على معنى لا يتغير من تقاليبها وتصاريفها في صيغها ومبانيها، فالكلمة العربية تدل على معنى وإن تقلبت في صور ستة عقلية، وكان أبو علي رحمه اللّٰه يستحسن هذا الموضع جدًا وينبه عليه، ويسر بما يحضره خاطره منه، 172 وقد أوضح ابن جني خمس كلمات ثلاثية في أشكال ستة، وهي ماتلي:
لكل شكل من أشكال هذه المادة معنى خاص، والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة، وتفصيله كما يلي:
1 | سمل | الثوب السمل وهو الخلق |
2 | سلم | السلامة |
3 | لمس | المس باليد مع إمرارها وتحريكها على الملموس |
4 | لسم | تلقين الرجل وإلزامه، ألسمت الرجل حجته إذا لقنته وألزمته إياها |
5 | ملس | الأملس والملساء وهو شيء لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له |
6 | مسل | المسل والمسيل كله واحد وهو مسيل الماء |
لهذه المادة تقاليب ستة، والمعنى الجامع لها الإسراع والخفة، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1 | قول | وهو بضد السكوت، الفم واللسان يخفان له ويقلقان ويمذلان به |
2 | قلو | أسرع إلى الحركة وألطف |
3 | وقل | وهو الوعل، وقالوا: توقَّل في الجبل إذا صعد فيه |
4 | ولق | إذا أسرع، أي: تخفّ وتسرع |
5 | لوق | الطعام الملوق: ما خدم وأعملت اليد في تحريكه وتلبيقه |
6 | لقو | اللقوة في الوجه هي أن الوجه اضطرب شكله، ومنه اللقوة للعقاب، قيل لها ذلك؛ لخفتها وسرعة طيرانها |
كذلك تقاليب هذه المادة الستة لها معاني خاصة، والمعنى الجامع لها هو الشدة في المفهوم، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1 | كلم | منه الكلْم للجرح، وذلك لشدة التي فيه... ومنه الكلام، وذلك أنه سبب لكل شر في أكثر الأمر |
2 | كمل | الكمال والتمام، أن الشيء إذا تم وكمل |
3 | لكم | منه اللكم إذا وجأت الرجل ونحوه |
4 | مكل | بئر مكول إذا قل ماؤها |
5 | ملك | ملك الشيء وأخذه بيده |
6 | لمك | كحل يحد البصر |
لهذه المادة أيضًا تقاليب تراكيبها ستة، وكل يحمل معنى معينًا إلا أن المعنى الجامع هو القوة والشدة، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1 | جبر | للقوة والشدة، ومنها جبرت العظم والفقير، أي: إذا قويهما وشددت منهما، والجبر: الملك لقوته وتقويته لغيره. |
2 | جراب | ومنه الجراب؛ لأنه يحفظ ما فيه، وذا حُفظ الشيء وروعى اشتد وقوي، وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذي. ومنها رجل مجرب، إذا جرسته الأمور ونجذته فقويت منته واشتدت شكيمته. |
3 | أبجر/ البُجْرة | وهو القوي السرّة. ومنه قول علي صلوات اللّٰه عليه وسلامه: إلى اللّٰه أشكو عجري وبجري. |
4 | البُرج/ البَرَج | (الحصن |
5 | رجب | رجبت الرجل إذا عظمته وقويت أمره، ومنه( شهر |
6 | ربج | ومنها الرباجي وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله |
ولكل صيغة من صيغ المادة معنى خاص معين إلا أنها جميعًا تشترك في القوة والاجتماع، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1 | القسوة | وهي شدة القلب واجتماعه |
2 | القوس | (آلة على هيئة الهلال ترمى بها السهام |
3 | الوقس | لابتداء الجرب، وذلك لأنه يجمع الجلد ويقحله |
4 | الوسق | للحمل، وذلك لاجتماعه وشدته، ومنه استوسق الأمر أي: اجتمع ((والليل وما وسق |
5 | السوق | لأنه استحثاث وجمع للمسوق بعضه إلى بعض. |
6 | سقو | أهمل |
إلى هنا قد تمت القوة الكلامية للعربية من جهة، والآن ننصرف إلى جهة أخرى من كمال اللغة العربية ونوضحها.
الجهة الثانية لكمال اللغة العربية هي أنها لغة تستحال فيها كلمة مهملة، ولما كانت كلماتها تفيد معنى فالعرب يقدرون على تكوين الكلمات ذات المعاني بالنسبة إلى غيرهم، وليس هناك فعل في العالم لم تستخدم العربية له لفظًا يدل عليه، ومثال ذلك هنّ وحنّ وأنّ وهو: الهنين والحنين والأنين، 178 فالمريض إذا تألم فيكون له صوت، فإذا كان صوته خفيفًا رقيقًا فيعبر عنه بالأنين، وإذا كان أخف من الأول فيعبر عنه بالهنين، وإذا حاول المريض على إخراج الصوت لراحة نفسه من خروج الأبخرة الفاسدة؛ لكن لم يسمع ضعفه له بذلك فيعبر عنه بالحنين، وإذا اشتدت الكربة فيتغير الصوت فحينئذٍ يعبر عنه الزفير والشهيق، فالزفير من شديد الأنين وقبيحه، والشهيق الأنين الشديد المرتفع جدًا، 179 وإذا تخرج النفس من الصدر وترجع إليه فيعبر عنه بالحشرجة، وهو زئير كأنه يشتكي صدره، 180 وهنا وضعت كل كلمة تدل على الحقيقة والماهية في الخارج، كصوت المريض وضع له لفظ هو كصورة ألم يشعره المريض، والصنعة اللفظية والمعنوية إنما تكون في جميع اللغات إلا أن اللغة العربية ودعت كلمات محاسن لغوية ما ليست لها في لغة أخرى. 181
فللعربية فضل وكمال في الكلمات ومعانيها كما لوحظت في أنين المريض، وذلك دليل على أن العربية بحر ذخار من المزايا والخصائص، وما ذكرت آنفًا من الألفاظ هي دالة على بعض أصوات عارضة للإنسان، وكلها تدل على فضل العربية وكمالها، بل فوق ذلك لما رأينا إلى أصوات الحيوان الذي لا يعقل بمنظار الميزان العربي فوجدناها مفيدةً للمعاني بشرط أن نقلت نقلًا صحيحًا، نحو غاق غاق حكاية صوت الغراب، 182 وطاق طاق صوت الضرب 183 (أنظر صحة المحاكاة أي المماثلة والمشابهة بين الصوتين بعد أداء الطاء من مخرجها أداءً صحيحًا)، وغِق غِق بالكسر وهي حكاية صوت الغليان، 184 وشِيب شِيب بالكسر: حكاية أصوات مشافر الإبل عند الشرب، 185 فهذه أصوات يمكن أن تحاكى في كل لغة إلا أن حكايتها في اللغات العجمية مجرد حكاية ليست وراءها حقيقة بخلاف العرب فإنهم لم يهملوها، بل استخدموها ككلمات عربية مفيدة للمعنى.
وتفصيل ذلك أن الغراب طائر أسود، والمادة الأصلية لهذه الكلمة تؤدي معنى السواد، يقولون: غيّق الرجل في رأيه تغييقًا إذا اختلط فلم يثبت على رأي واحد، فهو يموج، 186 وقد وضع صوت الغراب (غاق غاق) من نفس هذه المادة ليتبادر الذهن إلى سواد الغراب وكيفية انتشار الصوت، وكذا صوت ركض الخيل (طاق طاق) وضع من مادة "طوق"، ولهذه المادة تقاليب عديدة، والمعنى الجامع لها القوة والشدة، فحينما يركض الخيل على الأرض وتتصادم أظلافه بها فينشأ منه صوت مخصوص كأن هذه الكلمة (طاق طاق) تشير إلى قوة الخيل وسرعته مع حكاية صوته، وكل كلمة مركبة من مادة "غق" فهي تدل على صوت إذا صار من سعة إلى ضيق أو من ضيق إلى سعة، 187 فغِق غِق شكل مقلب من هذه المادة، وهي حكاية صوت الغليان وبيان تعليل لنشئ الصوت من الفقاقيع المتولدة عند ارتفاع الأبخرة عند غليان ما في القدر من شدة الحرارة، وأما الألفاظ المركبة من مادة "شيب" فهي دالة على البياض، فالشيب والمشيب واحد وهو بياض الشعر، 188 وقد وضع صوت شرب الإبل (شيب شيب) من نفس هذه المادة ليتبادر الذهن إلى بياض الماء وصفائه مع حكاية صوته، فملخص الكلام أن أصوات الحيوان والجماد لما تلفظ بها العرب فلم تبق ألفاظ مهملة، بل صارت ألفاظ موضوعة للمعنى، والحق أنها نكتة طريفة للغوي الأديب الأريب أن يكون اللفظ في الأصل مهملًا ولما تلفظ به الإنسان فيصبح موضوعًا للمعنى، وهي حيوية لغوية وفيض لغوي مختصان بالعربية. 189
من مزايا اللغة العربية المعجبة التي لها علاقة بكشف النقاب عن حقيقة المعنى، فالكلمة العربية ليست لها مناسبة محضة بمعناها، بل تنكشف الحقيقة المعنوية بعد إمعان النظر في الألفاظ العربية، وهي ميزة يستحال وجودها في لغة أخرى، ولمزيد من التوضيح نذكر على سبيل المثال أن "التعلم والتعليم" و"الدرس والتدريس" من كلمات متداولة على ألسنة الناس يوميًا، ومفهومها واضح شمولي حيث لم يمر عصر من العصور ولم تتداول على ألسنة بني آدم عليه السلام، ومن ثم وضعت لها ألفاظ تدل عليها في كل لغة؛ لكن حقائقها المعنوية كما تنكشف في اللغة العربية لا تكاد توجد في لغة أخرى، مثلًا مادة "التعلم والتعليم" العين واللام والميم، ومادة "الدرس والتدريس" الدال والراء والسين، فإن ركبت هذه الحروف المفردة فحصلت كلمة "عَلَم"، ومعناه النقش والعلامة، ويركب من نفس هذه المادة "عَلِم" مع اختلاف يسير في الحركات، ومعناه المعرفة وحصول علم الشيء؛ لكن إن أمعن النظر في هذه الكلمة المركبة وصورتها التركيبية فتظهر الحقيقة العلمية بكل وضوح.
قد وقع الخلاف بين الحكماء في حقيقة العلم حيث ذهب البعض إلى أن العلم عبارة عن حصول صورة الشيء في الذهن أو عبارة عن الصورة الحاصلة في الذهن، والأمر المتفق عليه أن الصورة ترسم في الذهن الإنساني أيا كان، ولابد أن نلفت الأنظار إلى أمر وهو أن العرب وضعوا لبيان حقيقة العلم حروفا إذا ركبت معا فتؤدي مفهوم الرسم، وهي حقيقة العلم بأن ترسم الصورة في الذهن الإنساني، وغايته أن الإنسان- دون أي التفات إلى رسم الصورة- يدخل في مرحلة المطالعة التي يجتهد ويكتشف فيها.
وكذا حقيقة الدرس والتدريس، ولا بد لفهمها من فهم أصلين منطقيين.
الأول: إن المناطقة متفقون على أن الإنسان صالح ومتأهل لحصول العلم، فليس الجهل ضد العلم، بل ضده عدم ملكة حصول العلم، وبناءً على ذلك يقولون: إن الجاهل من كان صالحًا للعلم لكنه لم يعلم، وهذه الكلمة لا تستخدم إلا للإنسان؛ فإن الحيوان لا تكون فيه ملكة حصول العلم عند الحكماء.
والثاني: إن هذه المقدرة والأهلية تظهر أولًا بالتعلم والتدرس وتحمل المشاق في سبيله، وثانيًا باستخدام القوة الذهنية في سبيل حفظ الاكتسابات العلمية.
بعد ملاحظة هذين الأصلين نمعن النظر في الصيغة المركبة من "الدال والراء والسين"، فمنها اشتقت كلمة "درسة"، في آخرها تاء المصدرية الزائدة، ولها معاني، منها الرياضة، يقال: درست القضيب أي: رضته، والمحو يقال: درسه الريح أي: محته، والقراءة، يقال: درست الكتاب أي: قرأته، ومن الأجدر بالذكر هنا أن الكلمة الثلاثية المركبة من "الدال والراء والسين" تكشف القناع عن هذه الحقيقة أن الدرس وضع للتعلم والتعليم لتزول موانع العلم من القوى الدماغية، ولتنمحي آثار الجهل، وتصقل الاستعداد الذهني، وهي كيفية تحصل بالرياضات وتحمل المشقات، فكلمة "درس" تبدأ بالدال، وهي من الحروف الشديدة، ثم الراء، وفيها صفة التكرير، ثم السين، وهي من الحروف المنفتحة، ووقوع حرف التكرير وحرف الانفتاح بعد حرف الشدة إشارة لطيفة إلى طريقة التعليم وتحصيل العلم، وثمرة العلم.
ليس هذا فحسب، بل وضع العرب كلمةً أخرى لدروس يومية، مادتها "السين والباء والقاف"، وصورتها المركبة "السبق"، ومعناه سبق الخيل في المضمار، وتقول العرب للذي يسبق من الخيل سابق وسبوق، 190 وكذا يعبر العرب عن الدروس اليومية بالسبق، وجمعه أسباق، فإن لم يسبق الطالب في التعلم ولم يزد علمًا وفهمًا كل يوم فليس هو في الحقيقة تعليمًا وتعلمًا، بل إنما هو ضياع الوقت وإهماله، ولا يعبر عنه العرب بالسبق؛ فإن هذه الكلمة تدل على الحقيقة والغاية مع دلالتها على معناها الأصلي كما تخبر بأن العرب كانوا عارفين بالعلم ونكاته اللطيفة، فالحاصل أن "المعلم والمتعلم والمدرس والمدرسة والكتاب والسبق" وغيرها من الكلمات ليست مفيدةً محضةً للمعاني الظاهرة، بل إنما هي مبينة وكاشفة للمفاهيم الكامنة فيها.
فهل يصح القول بعد ذكر هذا البسط أن الواضع قام بوضع هذه الكلمات نظرًا إلى لطائف منطقية ودقائق لغوية؟ وهل كان عارفًا بأساليب تدريسية ومناهج تعليمية قبل وضع هذه الكلمات الدالة على منهج أساسي تعليمي؟ بالضبط لا، وهذا يعني أن القول بأن اللغة العربية ملهمة ومنزلة من اللّٰه أسدّ وأقرب إلى الصواب، فإن الكلمتين العربيتين الثلاثيتين توضحان حقيقة التعليم والتعلم توضيحًا لا يمكن مثله في لغة أخرى، بل يستبعد الالتفات والإشارة إليها في كل لغات العالم، وإن أطلق العرب على غيرهم أعاجم فليس ذاك إهانة للغة، بل إنما هي حقيقة واقعة. 191
إن البراعة المعنوية للغة العربية غير مختصة بعدة ألفاظ دالة على معاني مرئية فقط، بل إن هذه البراعة تتحقق في ألفاظ عربية أخرى على وجه أتم سواء وإن لم تكن معانيها مرئية، ونقدم لها في السطور التالية أمثلة توضح أن البراعة المعنوية كما تتحقق في ألفاظ دالة على معاني مرئية كذلك تتحقق في ألفاظ دالة على معاني غير مرئية.
فاللغة العربية قد خصت أنواعًا من الألفاظ الدالة على الأعضاء البدنية سواءً كانت أعضاء خارجية أو داخلية، ومن جملتها "تلافيف" كلمة تطلق على الجزء الداخلي العلوي من الرأس الإنساني، والمخ في الرأس على شكل بيضاوي في سطحه بروز ومرتفعات، وهي مناط العقل والفهم كما قاله الحكماء، والمعنى أن من كثرت في سطح مخه بروز ومرتفعات فيكون أعقل وأذكى بالنسبة إلى من قلت في مخه؛ فإنه أحمق وأسفه، ولما كان مخ الحيوان مستويًا دون أي سطح مرتفع فهو غير عاقل، وهذه المرتفعات تطلق عليها في العربية "تلافيف"، 192 ومعناها اللغوي التغطية، تلفف الشخص في ثوبه أي شمله وتغطى به كاملًا، ولما كانت هذه المرتفعات كأنها مغطاة بالمخ فسماها العرب تلافيف.
وكذلك أسفل الرأس هو موضع المخ الذي يمتد إلى العمود الفقرين، وهو يربط بين الأعصاب والأدمغة، وهو معدن الأفعال الغير الاختيارية، وهنا كلمة "ذكوانة" مركبة من مادة "الذال والكاف والواؤ"، وهي تطلق على شجر، ولها تقليب آخر "ذكاوة"، والذكاء في الفهم أن يكون فهمًا تامًا سريع القبول، 193 والأمر الذي لا بد أن تلتفت إليه هو أن الذكي إنما يطلق على الفطين وسريع الفهم لأنه على سطح مخه أعالي وارتفاعات كأشجار ونباتات على الأرض، بينما السفيه يطلق على البليد الأحمق، وجمعه "سفهاء"، ومعناها الخفة، 194 وهي إشارة إلى خفة عقل السفيه.
ومن الألفاظ الدالة على معاني غير مرئية، "النطفة والعلقة"، فمادة النطفة "النون والطاء والفاء"، ومن تقاليبها التركيبة "نَطَف"، بمعنى العيب أو التلطخ بالعيب، و"النِّطف" عقر الجرح، يقال: أنطف الجرح إذا دخل أثره الجوف، والبعير النطف الذي قد أشرفت دبرته على الجوف، يقال: نطف نطفًا، وكذلك الذي أشرفت شجته على الدماغ، والعرب تقول للمويهة القليلة: نطفة، 195 والمني أيضًا نطفة، والنطفة تتدفق في رحم المرأة وتستقر فيه، وهي رقيقة سائلة، ويظهر لها أثر بعد وصولها إلى الجوف، وكذا هي نجسة شرعًا، كما أن "العلقة" بمعنى اللصوق واللزوق، وهي عبارة عن قطعة من دم غليظ جامد، وكلتا الكلمتين تطلقان على الجنين في أول مرحلة من مراحل خلقية، وقد يبين المهرة من الأطباء والحكماء أن النطفة تشتمل على جرثومات صغيرة، فإن وصلت منها جرثومة إلى الرحم فولد، وإن وصلت منها جرثومتان فولدان، وهذا سر التوأمين أيضًا، فالجرثومة- التي يمكن رؤيتها بالمجهر الإلكتروني- من نطفة الإنجاب تدخل في الجوف لزقة، وتنحدر من رحم المرأة في أشكال بيضوية كبيض النمل. 196
فالكلمتان السابقتان اللتان تصوران مراحل خلق الإنسان كانتا موضوعتين عند العرب قبل أن يتطور الطب ويتطرق إلى الأبحاث الدقيقة، وهما محتويتان على حقيقة واقعية ومعاني دقيقة يتدهش منها عقل إنساني، وليس هناك بد من أن ينقاد البشرية قاطبةً إلى فضل اللغة العربية وكمالها.
إن الألفاظ الموضوعة في اللغة العربية شاملة للحقائق الواقعة، وهي في شمولها عديمة النظير فقيدة المثال، كما أنها على درجة من الكمال لاتوازيها لغة عجمية، ونذكر لتوضيح ذلك بعض الأمثلة التي تقدم نموذجًا من شمولها الحقائق.
كلمة "موه" و"ماه" مركبة من مادة "الميم والوا والهاء"، والأولى (موه) مصدر، والثاني (ماه) فعل ماض بمعنى الخلط والطلاء، ومنه "تمويه" أي طلي الشيء بالذهب أو الفضة وليس أصله منه، ومن "الماء" سائل رقيق، وقال الأصمعي: ماهت البئر تموه وتماه موهًا إذا كثر ماؤها، 197 فهو يفيد معنى الاختلاط في الظاهر إلا أن كلمة "الماء" تشير إلى الحقيقة المائية؛ فإن الماء يتركب من اختلاط الغازين، وهما الهدروجين والأكسيجين، وكذا كلمة الأرض، ومنه المأروض، وهو الذي يحرك رأسه وجسده على غير عمد، 198 وإنما سميت الأرض أرضًا؛ لحركتها الدائمة المركبة من أجزاء، وكذا كلمة "الراسية" والإرساء بمعنى إيقاف السفينة في المرسى، والجبال أيضًا راسية، 199 فإنها أوقفت الأرض من تزلزلها كأنها أوتاد على الأرض كما قال تعالى: والجبال أوتادا. 200
الكلمة الموضوعة لبني آدم في اللغة العربية إنها شاملة للحقائق المعنوية التي ليس لها مثل ولا مثال في لغة أخرى، وهي "الإنسان وآدم". فالكلمة الأولى "الإنسان"، وهي من "الأنس"، مركبة من مادة "الألف والنون والسين"، والأنس: الجماعة الكثيرة من الناس، أو الحي المقيمون، 201 ومنه أَنَسَ، بمعنى سمع وبصر، يقال: وآنست الصوت: سمعته، 202 وآنست نارًا 203 أي: أبصرته، ومن المتأنس يقال للأسد الوحشي إذا أحس إنسيًا، ومنه الأُنس بمعنى الألفة والمحبة، ومنه الإنسان بمعنى الأرض التي لم تزرع أو المثال الذي يرى في سواد العين، 204 والإنس: البشر، 205 وإنما سمي البشر إِنسًا وإنسانًا؛ لأهميته وفوقيته على كل ما في العالم كفوقية سواد العين على سائر البدن، ولأن البشر كلهم يستأنسون يألفون، ولأنهم يبصرون ما يقع في المآل، وأما السمع والبصر للبشر فلا تمنعه من ذلك مسافة آلاف أميال، وقلب البشر صالح لقبول الأهليات كأرض غير مزروعة، فإن نظرت إلى كلمة الإنس والإنسان بمنظار الحقيقة لرأيتها كلمةً كاشفةً للحقائق.
والكلمة الثانية آدم، موضوعة لآدم أي: إنسان من الناس، 206 مركبة من مادة "الألف والدال والميم"، وفلان إدام قومه وإدام بني أبيه أي: ثمالهم وقوامهم ومن يصلح أمورهم، 207 ومنه "أُدم"، والأدمة الخلطة، يقال: بينهما أدمة وملحة أي خلطة، وقيل: الموافقة، والأدم: الألفة والاتفاق، 208 وإنما سمي الإنسان آدم؛ لموافقة العالم وإصلاحه مربوطة بوجوده، إن قام بتدميره وإبادته لخرب العالم بأسره، وليست خلافته على العالم خفية على أحد، وإصلاح المجتمع البشري والمحاولة لتوفير أسبابه إنها من حظ الإنسان، فإن كان البشر يطلق عليه الإنسان فبالطريق الأولى يستحق حلية الآدمي. 209 210
فظهر بجلاء أن كلتا الكلمتين شاملتان لمعاني ومفاهيم حقيقية، وظهر من ذلك أن اللغة العربية لغة شاملة جامعة لا توازيها لغة عجمية في دقتها وإحاطتها.
لا شك في أن اللغة العربية متفردة ممتازة بحروفها وألفاظها مع قواعدها اللغوية؛ لكنها تزداد فضلًا وكمالًا بعد إمعان النظر في إعراب العربية وحركاتها، فإنها ليست مجرد الحركات، بل لها أثر إيجابي واضح، ولها معاني ومفاهيم كما كانت لصفات الحروف ومخارجها، ونذكر بعض بحوثها فيما يلي:
هذه كلمات ثلاثية تقرأ ساكن الأوسط إلا أن معانيها تتغير بتغير إعراب الحرف الأول، فالحمل بمعنى الثقل؛ لكنه إذا كان بفتح الحاء (حَمل) فيطلق على ما في رحم امرأة، وإذا كان بكسر الحاء (حِمل) فيطلق على ثقل يضعه الإنسان على ظهره، فيتغير معنى الحمل بتغير حركة الحرف الأول، وكذا "قرن" بمعنى المثل؛ لكنه إذا كان بفتح القاف (قُرن) فيراد به المثل في السن، وإذا كان بكسر القاف (قِرن) فيراد به المثل في الشدة، فيتغير معنى القرن بتغير حركة الحرف الأول، وكذلك كلمة "عدل" مقروءة ساكن الأوسط بمعنى المثل إلا أنه يتغير بفتح العين وكسرها، فإذا كان بفتح العين (عَدل) فيراد به المثل في العدد، وإذا كان بكسر العين (عِدل) فيراد به المثل في الوزن. 211
والنكتة الطريفة في هذا المقام أن اللغة العربية اعتنت المناسبة بين معنى الكلمة وحركاتها مع المناسبة المعنوية، ومن ثم الفتحة لما كانت أخف الحركات فتعينت لأخف الأثقال، والكسرة لما كانت أثقل الحركات بالنسبة إلى الفتحة فاختيرت لحمل ثقيل يوضع على الظهر، وأما المماثلة في السن فلما كانت هي غير اختيارية وأخف المماثلات فاختيرت لها الفتحة بخلاف المماثلة في الشدة فتعينت لها الكسرة، وهكذا "عدل".
فتبين أن اللغة العربية لم تهمل أية حركة من حركات الكلمات فضلًا عن إهمال حرف من حروفها، كما أنها تهتم بالمناسبة بين المعاني والحركات، وهي ميزة دقيقة لطيفة حظيت بها اللغة العربية، ومن المستحيل أن تنالها لغة عجمية أخرى، ومن ثم العربية لغة واسعة كثيرة المعاني؛ فإن المعاني فيها تتغير بتغير يسير.
فالعربية لغة ذات ألفاظ كثيرة ومفاهيم جامعة تحتمل فنونًا أدبيةً من التشبيهات والتمثيلات والكنايات والإشارات والأمثال كما تحتمل طرائف لغوية تدهش العقل الإنساني حيث تتغير أسماء شيء واحد حسب مراحل مختلفة، فكلما تختلف مرحلة يتغير اسمه، ونذكر هذا الجانب من كمال العربية فيما يلي، وذلك يوضح سعة الكلمات في العربية وامتيازها من لغات أخرى.
إن الزمان يحسب في العالم الغربي حسب التقويم الغريغوري شهريًا وأسبوعيًا ويوميًا، فالزمان المشتمل على ثلاثين يومًا شهر، واثنا عشر شهرًا سنة، وكذا شهر مشتمل على أربعة أرباع، الربع الواحد أسبوع، وهو التقويم الشمسي أيضاً؛ لكن العرب يقومون الزمان حسب تقويم قمري من حيث ازدياد القمر وانتقاصه، والقمر له أربعة أسماء حسب مراحله الأربعة، فعندما يطلع فهو الغرة، ثم بعد ثلاث ليال يصبح هلالًا، ثم يكون القمر إلى أربعة عشر يومًا، ثم يكون بدرًا، وكل ثلاث ليال من الشهر تسمى باسم، فيقال: ثلاث غرر، وغرة كل شيء أوله، فالقمر يتلألأ إلى ثلاثة أيام، وثلاث (الرابع والخامس والسادس) نفل، وكذا ثلاث تسع؛ لأن آخر يوم منها اليوم التاسع، وثلاث عشر؛ لأن أول يوم منها اليوم العاشر، وثلاث بيض؛ لأنها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها، وثلاث درع، سميت بذلك لاسوداد أوائلها، وابيضاض سائرها، وثلاث ظلم؛ لإظلامها، وثلاث حنادس؛ لسوادها، والحندس الظلمة، وثلاث دآدئ، وثلاث محاق، لإمحاق القمر فيها، 212 فليست هي أسماء محضة فقط، بل إنها تدل على انتقاص القمر وازديادها مع دلالتها على الكيفية أيضًا. 213
فكل شيء له أسماء في العربية تختلف اختلاف الصفات والكيفيات، فكثرت فيها الألفاظ المترادفة، واتسع نطاقها شعرًا ونثرًا، فقد راعوا في الأسماء والألفاظ الغير المتباينة مناسبةً بينها وبين معانيها بإتقان ودقة كما يبدو من أسماء الأشياء ومراحلها أن اللغة العربية شاهدت الكون ونظامها مشاهدةً تامةً لم تأل أي جهد فيها، نحو مراحل خلق الإنسان تسمى كل مرحلة باسم خاص.
يقول اللّٰه تبارك وتعالى: فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، 214 فهذا "الماء الدافق" يسمى بـ"المني" في بداية الأمر كما قال جل وعلا: ألم يك نطفة من مني يمنى، 215 ولما يستقر المني في رحم امرأة فيكون "نطفة"، وكلما تتدرج هذه النطفة فيتغير اسمها ولها مراحل "العلقة" ثم "المضغة" ثم "العظام" ثم "اللحم" كما قال تعالى: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر، 216 فيطلق عليه "الجنين"، وهو وصف له ما دام في بطن أمه، 217 و"الوليد" إذا ولد، ويطلق عليه "الصديغ" إذا كان قبل استتمامه سبعة أيام؛ لأنه لا يشتد صدغه إلا إلى تمام السبعة، 218 ثم "الرضيع" إذا امتص اللبن من الثديين، و"الفطيم" إذا قطع الولد عن الرضاع، ثم يطلق عليه "الدارج" بعد نشأته وانسحابه على الأرض، 219 و"المثغور" إذا سقطت ثنيتاه، قيل: إذا كسر ثغر الصبي أي ثغر ثغورًا، 220 ولما بلغ إلى الصبي إلى عشر سنوات وبضعة فهو "المترعرع" ثم إذا بلغ من عمره إلى البلوغ فهو "اليافع"، 221 فإذا احتلم واجتمعت قواه فهو "الحزور"، 222 وأما "الغلام" فيطلق عليه في جميع هذه المراحل، فإذا خرج وجه الغلام فهو "الباقل"، و"الفتى" إذا بلغ إلى عمر بين المراهقة والرجولة، وإذا نبتت له لحية وشارب بالتمام فهو "المجتمع"، فلما لم يبلغ إلى أربعين سنة فهو "الشاب"، وإذا تجاوز أربعين فهو "الكهل"، ثم يكون "الشيخ"، ولا بد من اللفتة إلى أن الألفاظ وإطلاقها على الإنسان في أدوار مستقلة ليست مجرد ألفاظ فقط، بل إن كل لفظ موضوع لعهد خاص فتشير بنيته وصيغته إلى ذلك الزمن الخاص. 223
كما أن العرب يراعون أحوال ضعف الإنسان حيث أنهم يعبرون عن كل حال من أحوال ضعفه بلفظ خاص، فإذا مرض الإنسان واعتل- من العلة- فيطلق عليه بـ"العليل"، 224 وإذا كان يعتريه السقم كثيرًا فهو "السقيم والمريض"، 225 وإذا ازداد مرضه واشتد فهو "الوقيد"، فإذا كان مرضه مرضًا ملازمًا، وبدأت تتعطل أعضائه الرئيسية، فهو "الدنيف" من الدنف، يقال: دنفت الشمس وأذنفت، إذا دنت للمغيب واصفرت، 226 فإذا اشتد المرض شديد أفسد عقله، وأذابه الهم والغم كأنه بين الحياة والممات فهو "الحريض"، فكل هذه الألفاظ تخبر عن حال المريض إلا أن الحقائق تنكشف عند التفكر في مادة هذه الألفاظ واشتقاقها، فإن المفاهيم المستنبطة من هذه الألفاظ تشير إلى أنها اللغة العربية أحرزت أنواع المرض كطبيب حاذق ماهر. 227
فسعة اللغة العربية مع فصاحتها وبلاغتها حجة باهرة على ذكاء العرب وفطنتهم وأذهانهم الثاقبة، ويتضح ذلك حينما نتفكر في أسماء الأشياء، فللعسل ثمانون اسمًا، وللثعلب مئتي اسم، وللأسد خمسمئة اسم، وللإبل ألف اسم، وكذا للسيف، وللحوادث والكوارث أربعة آلاف اسم، وذلك دليل بيّن على أن العرب كانوا أهل حفظ وإتقان، وأصحاب فكر عميق وعقل قوي حيث قاموا بوضع هذه الأسماء الكثيرة، فالعربية دون أدنى شك وتردد أفصح اللغات وأبلغها وأعزرها كلمةً وأجمعها معنًى. 228
فقد تبينت من هذه البحوث سعة اللغة العربية كما اتضح منها أن اللّٰه جل وعلا اختارها لسيد البرية صلى اللّٰه عليه وآله وسلم واختارها لكتابه المنزل عليه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم؛ لمزاياها الفريدة وخصائصها الفذة، وهي ترفع درجته على جميع لغات العالم، فإن اللّٰه كان عالما بأنها ستكون لغة حبيبه المصطفى صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وأنها ستكون لغة كتابه المنزل عليه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، لذلك حفظها اللّٰه تعالى بأسلوب إيجابي واضح حيث بدأت من الإنسان الأول آدم عليه السلام وتناقلت جيلًا بعد جيل إلى عهد نبنيا محمد صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، وحافظ عليها في كل عصر من العصور الماضية من كل عيب يلحق اللغات بمرور العصور وتغير الأحوال حتى وصلت العربية إلى أوج الكمال، فاختارها لسانًا لسيد الأنام صلى اللّٰه عليه وآله وسلم ولسانًا للقرآن المبين.
الحروف التي تتركب منها الكلمات البسيطة، ثم تتركب منها الجمل في اللغة العربية يسميها العرب حروف المعجم، وقد ذكر الإمام ابن العربي أنها سميت حروف المعجم؛ لأنها عجمت على الناظر فيها معناها، 229 فهنا نشير إلى أدق أبحاث اللغة العربية وأعمقها كما أوردها الإمام ابن العربي في كتابه "الفتوحات المكية" في أسلوبه العلمي الدقيق، ومنهجه الفكري العميق، واستعاراته اللطيفة ومصطلحاته الفريدة، وغيرها من أبحاث ذكرها في كتبه الأخرى نحو المبادئ والغايات في معاني الحروف والآيات، وكتاب الألف الأحدية، وكتاب الباء، وكتاب العين، وكتاب الميم والواو والنون، وكتاب النون، والجمع والتفصيل في أسرار معاني التنزيل، ولابد أن نقدم هذه الأبحاث هنا إشعارًا بأن اللغة العربية أعلى وأرفع لفظًا ومعنًى، لغةً وصوتًا، ولا شك في ذلك إلا أن مزايا كلماتها لا تنحصر على ما ذكرناها في السابق فحسب، بل لها مزايا وخصائص أخرى لا يمكن أن تحيط بها لغة عجمية لكونها جزءًا من الكلام الإلهي، فنذكرها فيما يلي.
قد استنبط الإمام ابن العربي حكمًا عجيبةً وأسرارًا غريبةً من الحروف الهجائية وقيدها في شتى كتبه، وهي تنبئ عن أنها متسلطة ومتغلبة على العالم، فلها أثر راسخ في ناحية من نواحيه، وقد عقد الشيخ الباب الثاني في كتابه "الفتوحات المكية"، الذي أكثر مباحثه محتوية على الحروف والأسماء وعلى علومها الفذة الفريدة، ونقدم نبذةً منها تقريبًا للفهم بأن هذه العلوم مختصة باللغة العربية فحسب كما أنها تختص بالعلماء الربانين، وليست هي علوم تكتسب بالفكر الإنساني، بل إنما هي موهبة من اللّٰه ملهمة منه كما قاله الإمام ابن العربي. 230
يقول الشيخ الأكبر حول أسرار حروف المعجم: والغرض في هذا الكتاب إظهار لمع ولوائح إشارات من أسرار الوجود، ولو فتحنا الكلام على سرائر هذه الحروف وما تقتضيه حقائقها لكلت اليمين وحفي القلم وجف المداد وضاقت القراطيس والألواح، ولو كان الرق المنشور فإنها من الكلمات التي قال اللّٰه تعالى فيها: لو كان البحر مدادًا، 231 وقال: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللّٰه، 232 وهنا سر إشارة عجيبة لمن تفطن لها وعثر على هذه الكلمات، فلو كانت هذه العلوم نتيجة عن فكر ونظر لانحصر الإنسان في أقرب مدة، ولكنها موارج الحق تعالى تتوالى على قلب العبد وأرواحه البررة تنزل عليهم من عالم غيبه برحمته التي من عنده وعلمه الذي من لدنه... وقد صرح بذلك في أمره لرسوله صلى اللّٰه عليه وسلم : وقل رب زدني علما، 233 والمراد بهذه الزيادة من العلم المتعلق بالإله ليزيد معرفة بتوحيد الكثرة فتزيد رغبته في تحميده، فيزاد فضلا على تحميده دون انتهاء ولا انقطاع، فطلب منه الزياده، وقد حصل من العلوم والأسرار ما لم يبلغه أحد. 234
أما أفلاك الحروف وطبائعها فيقول الإمام ابن العربي: لما كوشفنا على بسائط الحروف وجدناها على أربعة مراتب، حروف مرتبتها سبعة أفلاك وهي الألف والزاي واللام، وحروف مرتبتها ثمانية أفلاك وهي النون والصاد والضاد، وحروف مرتبتها تسعة أفلاك وهي العين والغين والسين والشين، وحروف مرتبتها عشرة أفلاك وهي باقي حروف المعجم... أما المرتبة السبعية فالزاي واللام منها دون الألف فطبعها الحرارة واليبوسة، وأما الألف فطبعها الحرارة والرطوبة واليبوسة والبرودة، ترجع مع الحار حارةً ومع الرطب رطبةً ومع البارد باردةً ومع اليابس يابسةً على حسب ما تجاوره من العوالم، وأما المرتبة الثمانية فحروفها حارة يابسة، وأما المرتبة التسعية فالعين والغين طبعهما البرودة واليبوسة، وأما السين والشين فطبعهما الحرارة واليبوسة، وأما المرتبة العشرية فحروفها حارة يابسة إلا الحاء المهملة والخاء المعجمة فإنهما باردتان يابستان، وإلا الهاء والهمزة فإنهما باردتان رطبتان، فعدد الأفلاك التي عن حركتها توجد الحرارة مائتا فلك وثلاثة أفلاك،وعدد الأفلاك التي عن حركتها توجد اليبوسة مائتا فلك وأحد وأربعون فلكًا، وعدد الأفلاك التي عن حركتها توجد البرودة خمسة وستون فلكًا، وعدد الأفلاك التي عن حركتها توجد الرطوبة سبعة وعشرون فلكًا مع التوالج والتداخل الذي فيها. 235
ثم قال الإمام ابن العربي: إن المرتبة السبعية التي لها الزاي والألف واللام جعلناها للحضرة الإلهية المكلفة أي نصيبها من الحروف، وإن المرتبة الثمانية التي هي النون والصاد والضاد جعلناها حظ الإنسان من عالم الحروف، وإن المرتبة التسعية التي هي العين والغين والسين والشين جعلناها حظ الجن من عالم الحروف،وإن المرتبة العشرية وهي المرتبة الثانية من المراتب الأربعة التي هي باقي الحروف جعلناها حظ الملائكة من عالم الحروف"، 236 وقد ذكر الشيخ في كتابه الآخر "المبادئ والغايات في معاني الحروف والآيات" أكثر من خمسمئة مسئلة تبحث عن جوانب مختلفة للحروف المعجمة، واقتبس الشيخ السيد مهر علي شاه الجيلاني في كتابه "الفتوحات الصمدية" عن كتاب الإمام ابن العربي وعلق عليه بأن المسائل والمباحث التي استنبطها الإمام ابن العربي من الحروف المعجمة أكثر من ثلاثة آلاف وخمس مئة وأربعين (3540) مسئلة. 237
قد عقد الإمام ابن العربي في "الفتوحات المكية" بابًا يبحث فيه عن عوالم الحروف، ويذكر في تقدمته: اعلم- وفقنا اللّٰه وإياكم- أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولايعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا، وعالم الحروف أفصح العالم لسانًا وأوضحه بيانًا، وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف في العرف، فمنهم عالم الجبروت عند أبي طالب المكي ونسميه نحن عالم العظمة، وهو: الهاء والهمزة، ومنهم العالم الأعلى، وهو عالم الملكوت، وهو: الحاء والخاء والعين والغين، ومنهم العالم الوسط، وهو عالم الجبروت عندنا وعند أكثر أصحابنا، وهو: التاء والثاء والجيم والدال والذال والراء والزاي والظاء والكاف واللام والنون والصاد والضاد والقاف والسين والشين والياء الصحيحة، ومنهم العالم الأسفل، وهو عالم الملك والشهادة، وهو: الباء والميم والواو الصحيحة، ومنهم العالم الممتزج بين عالم الشهادة والعالم الوسط، وهو: الفاء، ومنهم عالم الامتزاج بين عالم الجبروت الوسط وبين عالم الملكوت وهو: الكاف والقاف وهو امتزاج المرتبة، ويمازجهم في الصفة الروحانية الطاء والظاء والصاد والضاد، ومنهم عالم الامتزاج بين عالم الجبروت الأعظم وبين الملكوت، وهو: الحاء المهملة، ومنهم العالم الذي يشبه العالم منا الذين لايتصفون بالدخول فينا ولا بالخروج عنا، وهو: الألف والياء والواو المعتلتان، فهؤلاء عوالم ولكل عالم رسول من جنسهم ولهم شريعة تعبدوا بها، ولهم لطائف وكثائف، وعليهم من الخطاب الأمر ليس عندهم نهي، وفيهم عامة وخاصة وخاصة الخاصة وصفاء خلاصة خاصة الخاصة. 238
ثم قسم الشيخ في الباب الثاني من "الفتوحات المكية" طبائع الحروف إلى أقسام عديدة، ونعرض الصفح عنها في هذا المجال، لكن نذكر هنا تقسيما منها على سبيل التمثيل، لتظهر أهمية هذه التقاسيم كلها، وليتضح المعيار الحرفي الذي توازيه أية لغة عجمية.
ذكر الإمام ابن العربي حول مبادئ السور بقوله: اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعرف حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة، ثم جعل سور القرآن بالسين وهو التعبد الشرعي، وهو ظاهر السور الذي فيه العذاب، وفيه يقع الجهل وبها باطنه، وبالصاد وهو مقام الرحمة، وليس إلا العلم بحقائقها، وهو التوحيد، فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة، وهو كمال الصورة. 239
فالحروف المقطعات نزلت في أوائل تسع وعشرين سورة، وهي سورة البقرة ، 240 وسورة آل عمران، ar وسورة الأعراف، ar وسورة يونس، ar وسورة هود، ar وسورة یوسف، ar وسورة الرعد، ar وسورة إبراهیم، ar وسورة الحجر، ar وسورة مریم، ar وسورة طٰه، ar وسورة الشعراء، ar وسورة النمل، 252 وسورة القصص، 253 وسورة العنکبوت، 254 وسورة الروم، 255 وسورة لقمان، 256 وسورة السجدة، 257 وسورة یٰس، 258 وسورة ص، 259 وسورة الغافر، 260 وسورة فصلت، 261 وسورة الشورى، 262 وسورة الزخرف، ar وسورة الدخان، 264 وسورة الجاثیة، 265 وسورة الأحقاف، 266 وسورة ق، 267 وسورة القلم، 268 أما الحروف المقطعة في هذه السور فعددها مع التكرار ثمانية وسبعون (78) حرفًا، ومن غير تكرار أربعة عشر (14) حرفًا، وهي الألف واللام والمیم والصاد والراء والکاف والهاء والیاء والعین والطاء والسین والحاء والقاف والنون.
فالسور التي في أوائلها مقطعات إنها تسع وعشرون سورة، فالتاسع والعشرن القطب الذي به قوام الفلك، وهو علة وجوده، وهو سورة آل عمران: الم اللّٰه، ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون، 269 وذلك يعني أن الحروف المقطعة في أول سورة آل عمران (الم اللّٰه) للسور الأخرى التي في أوائلها حروف مقطعات بمنزلة القطب الذي به قوام الفلك.
إن خطاب اللّٰه تعالى على أنواع كما ذكرها الإمام ابن العربي رحمه اللّٰه بإيجاز: الأول: الخطاب بالكلام متنزل إلى أدنى رتب البيان، والثاني: الخطاب بالكلم أخفى منه، وأجمع، والثالث: الخطاب بالحروف في أعلاه، وهو مما خصه به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تنزل الحروف في كتاب قبل كتابه، فعلم معانيها ومواقع رتبها التي منها تنشأ أعدادها مما يختص به آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 270
فهذا ما ذهب إليه الإمام ابن العربي من أن الخطاب بالحروف المقطعة مختص بالرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم حيث لايعرفه غيره، يؤيده كون الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم جامع الكلم، فإن جوامع الكلم-وهي ألفاظ قليلة المباني وكثيرة المعاني- من الخصائص التي أوتي الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم ولم يؤت أحد قبله كما رواه أبو هريرة رضي اللّٰه عنه أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم قال: فضلت على الأنبياء بست، (وذكر منها) أعطيت جوامع الكلم، 271 وهذا حديث أخرجه الشيخان في الصحيحين، واللفظ للإمام مسلم، وقد علق عليه الإمام البخاري رحمه اللّٰه حيث قال: بلغني أن جوامع الكلم: أن اللّٰه يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله، في الأمر الواحد، والأمرين، أو نحو ذلك. 272
وقد يتكلم الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم بكلمات موجزة معجزة، قليلة المباني وكثيرة المعاني، وهي مروية غير مرة في الكتب الحديثية، وإيضاحًا لمعنى جوامع الكلم يقول الإمام العيني رحمه اللّٰه: الإضافة في: جوامع الكلم، من إضافة الصفة إلى الموصوف، هي: الكلمة الموجزة لفظًا المتسعة معنى، يعني: يكون اللفظ قليلا والمعنى كثيرا". 273
كما أوضحه الإمام ابن حجر الهيثمي في تعليق له على هذا الحديث المروي في شمائل الترمذي 274 فقال: (ویتکلم بجوامع الکلم)أي: بالکلمة القلیلة الحروف الجامعة للمعاني الکثیرة بحیث یعجز الحصر عن استقصائها. 275 وأخرجه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه: أوتيت جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه. 276
وذكر الإمام المناوي معنى الكلمة الجامعة شرحًا وبسطًا بقوله كهذا: يعني البلاغة والتوصل إلى غوامض المعاني التي أغلقت على غيره (وجوامعه) أسراره التي جمعها اللّٰه فيه (وخواتمه) قال القرطبي: يعني: أنه يختم كلامه بمقطع وجيز بليغ جامع. 277
وهذا يعني أن الكلام إذا كان موجزًا ومعجزًا، بليغًا وفصيحًا، فهو خواتم الكلم، من أجل ذلك كان الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم يدعو بأدعية كلماتها قليلة ومفاهيما كثيرة عظيمة.
إن اللّٰه تعالى أمر رسوله بطلب الزيادة في العلم حيث قال جل وعلا: قل رب زدني علمًا، وامتثالًا بأمره تعالى كان يشكر اللّٰه تعالى بعد تناول الطعام والشراب بدعوة شاملة للشكر على آلاء اللّٰه تعالى ونعمائه ولطلب الزيادة في العلوم الإلهية، ونذكر بعض الأحاديث التي وردت فيها الأدعية المأثورة عن الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، فأخرجه أبو داود أنه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم كان يقول بعد الطعام: اللّٰهم بارك لنا فیه وأطعمنا خيرًا منه. 278 وأمر صلى اللّٰه عليه وآله وسلم أن قالوا بعد شرب اللبن: اللّٰهم بارك لنا فیه وزدنا منه. 279
ولو نظر في هذه الأدعية وأمثالها بدقة لاتضحت مناسبة دقيقة بينها وبين ما أمره اللّٰه من طلب الزيادة في العلم، وقد اختارها الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم امتثالا بما أمره ا للّٰهجل وعلا حيث تلائم كلمات بعضها ببعض أي (رب زدني علما، وبارك لنا فيه وزدنا منه)، وهي حجة بينة على كونها من جوامع الكلم، فإنه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم يسئل اللّٰه العلم ضمن سؤاله البركة والزيادة في البن؛ وذلك بدليل حديث رواه أبو هريرة رضي اللّٰه عنه: أتي رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال له جبرئيل عليه السلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك، 280 وكذا حديث آخر رواه عبد اللّٰه بن عمر رضي اللّٰه عنهما قال: سمعت رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم يقول: أتيت وأنا نائم بقدح من لبن، فشربت منه حتى جعل اللبن يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب، فقالوا: يا رسول اللّٰه، فما أولته؟ قال: العلم، 281 282 فتأويل اللبن بالفطرة والعلم دليل واضح على مناسبة جامعة بين كلمات دعا بها الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم وبين كلمات خاطبه صلى اللّٰه عليه وآله وسلم بها 283، فكأنه تذكر الزيادة من العلم عند ما كان يشرب اللبن أو يأكل الطعام، فيسئل اللّٰه تعالى في عالم الخيال العلم والزيادة منه، والمراد بهذه الزيادة من العلم المتعلق بالإله ليزيد معرفةً بتوحيد الكثرة فتزيد رغبته في تحميده، فيزاد فضلًا على تحميده دون انتهاء ولا انقطاع، فطلب منه الزيادة، وقد حصل من العلوم والأسرار ما لم يبلغه أحد. 284
فتؤيد هذه الروايات رأي الإمام ابن العربي حيث صرح على أن اللّٰه تعالى خاطب بالحروف المقطعات رسوله صلى اللّٰه عليه وسلم فقط، ولايفهم أسرارها وحكمها إلا هو، وقد واضعها اللّٰه تعالى مع نبيه عليه السلام في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل ولا غيره، وقد روي في الأخبار أن جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى: كهيعص، فلما قال: كاف قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: علمت، فقال: ها فقال: علمت، فقال: يا فقال: علمت، فقال: عين فقال: علمت، فقال: صاد فقال: علمت، فقال جبريل عليه السلام: كيف علمت ما لم أعلم، 285 فالحاصل أن الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم كان عارفا بأسرار المقطعات وحقائقها معرفة تامة.
يقول الشيخ الأكبر: وهو أي الخطاب الحروف مما خصه به محمد صلى اللّٰه عليه وآله وسلم فلم تنزل الحروف في كتاب قبل كتابه، فعلم معانيها ومواقع رتبها التي منها تنشأ أعدادها مما يختص به آل محمد صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، 286 وذلك يدل على أنه صلى اللّٰه عليه وسلم كان عارفًا بمعانيها ومفاهيمها، ومقاصدها وأغراضها، ومواقع رتبها، والأعداد التي تنشأ منها.
يذكر الشيخ الأكبر في" المبادئ والغايات في معاني الحروف والآيات": اعلم أن منشأ الأعداد من الرتب، ومنشأ الرتب ظهور الخلق، وظهور الخلق الحكمة، والحكمة بالترتيب 287 والعلم بالأعداد مختص بالرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم ومن نسب إليه من الأولياء والصوفية، والعلماء الربانيين 288، ولا يعرف حقيقتها غيرهم، كما فصلها وأفرد الكلام فيها الشيخ الأكبر، ولم يسبق إليه أحد غيره.
وقد اتجه الشيخ مهر علي شاه إلى أعداد الحروف لما عرض عليه أحد من العلماء السلفية عشرة أسئلة، فصنف رسالةً وجيزةً محتويةً على الإجابة عنها، وأضاف إليها أثني عشر سؤالًا، وسماها بـ"الفتوحات الصمدية الملقب بالفيوضات الشمسية"، 289 وقد كان السؤال الثالث من هذه العشرة مشتملًا على لغز منظوم صعب أدق للإمام الشيخ أبي الحفص عمر بن إسماعيل الفاروقي- وكان إمامًا عالما جيدًا في القرن السابع الهجري-، وقد كان حله الإمام ابن تيمية في العشرين من عمره في قصيدة طويلة؛ لكن الشيخ أبا الحفص لما وقف عليها فكتب إلى الإمام ابن تيمية أبياتًا في مدحه، وذكر:
أحسن في حل المسمى وما سمى ولكن جاء بالمثل 290
وأما العالم السلفي فطرح على الشيخ مهر علي شاه الجيلاني السؤال نفسه إلا أنه أجابه بأسلوب رائع إجابةً تحتوي على مفهوم مختلف عما ذهب إليه الشيخ ابن تيمية رحمه اللّٰه، ولايفهمها إلا الماهر البارع في الفنون والعلوم، وقبل أن أجاب قد التفت الشيخ إلى علوم ضرورية، وذكر فيها تسع وعشرين نوعًا من الأعداد، فيقول: اعلم أنه یجب علی طالب الحل أن یعلم أولًا أنواع الأعداد والأصول العشرة لکل اسم والوجود اللفظي والرقمي والذهني والعیني له؛ فإن بعض الأحکام في هذ اللغز مبني علی بعض الأنواع والأصول والوجود دون بعض وأيضًا بعضها یدور فلکها على بسائط الاسم والبعض الآخر على الاسم والبعض على المسمى، أنواع الأعداد: (1) عدد أوسط أبجدي، (2) عدد الأسرار من الألف إلى النون على الترتیب المشهور ومن(س) على خلافه
س | ع | ف | ص | ق | ر | ش | ت | ث | خ | ذ | ض | ظ | غ |
4 | 5 | 4 | 7 | 4 | 5 | 4 | 7 | 5 | 4 | 7 | 4 | 7 | 7 |
(3) عدد المختار من الثمانية إلی أربعة عشر في دور واحد ثم من التسعة إلی أربعة عشرة في الدور الثاني ثم من عشرة إلی أربعة عشر في الدور الثالث ثم من أحد عشرة إلی أربعة عشر في الدور الرابع ثم من اثني عشر إلی أربعة عشر في الدور الخامس ثم من ثلاثة عشر إلی أربعة عشر في الدور السادس ثم یتم علی أربعة عشر للغین، (4) مثلثات الأعداد لحروف الطبائع الأربعة، (5) أعداد فواضل الدور، (6) أعداد إِدريسيَّة، (7) أعداد شَعيَوِية، (8) مثلثة الأبجدي، (9) عكس الأبجدي، (10) عدد أكملي أعني اتبثي، (11) أعداد مخزونة، (12) أعداد زوجية من الإثنين إلي ثمانية وخمسين، (13)أحسب الأعداد، (14) مثلثات الأبجدي أعني أيقغي من الواحد والاثنين إلى العشرة، (15) أيقغي من الواحد والمئة والألف، (16) أعداد الأخيار أعني يوشعي، (17) أعداد شيثي، (18) أعداد غاية الأماني أعني عكس الأيقغ، (19) أعداد موسوية، (20) أعداد آصفية، (21) دانيالي، (22) أعداد المرتبة، (23) أعداد مثلثة الوسطي ومثلثة القدمين، (24) مثلثة العشرات، (25) مثلثة المآت، (26) مثلثة الألوف، (27) أعداد عكس اهطمي، (28) أعداد الصوامت وعدد اصم، (29)عدد نواطق. 291
والغرض من تقديم هذا المقتبس تأييد موقف الإمام ابن العربي بأن العلوم المكنونة في الحروف العربية مختصة بالرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم وعترته الطاهرين الطيبيين والعلماء الراسخين، ولذلك طرح عليه الشيخ مهر علي شاه الجيلاني اثني عشر سؤالًا، وهي لاتزال كعقدة لاتنحل، والسؤال الأول منها يتعلق بكلام الشيخ الأكبر قدس سره، ونصه: قال سيدنا محمد بن علي المعروف بابن العربي عن الحروف المعجمة من الألف إلى الياء: فيها ثلاثة آلاف وخمسمئة وأربعين (3540) مسئلة على عدد الاتصالات وتحت كل مسئلة مسائل... واذكر معها سبب ترتيب الحروف الهجائية (الألف أولًا، والباء ثانيًا، والثاء ثالثًا، وقس على هذا)، فإما أن تكون الحروف على ترتيب المخارج فلا بد أن تكون الشفوية أولًا والوسطية ثانيًا والحلقية ثالثًا وإما أن تكون بالعكس، وليس كذلك، فأي ترتيب هو؟ فاذكره أنت وسبب "تعانق لا"، واذكر سبب توسط "لا" بين الهاء والياء، فإن ضبطت أنت الحروف الهجائية وترتيبها من الألف إلى الياء ضبطًا تامًا فاذكرها. 292
وهذا المذكور آنفًا من أسهل أجزاء السؤال المشتمل في الحقيقة على ثمانية أسئلة؛ لكن لم يجب أحد عن أسئلته الثانية عشرة مع بيان ترتيب الحروف الكذائي بعد قرن كامل، فإن الشيخ مهر علي شاه قد قال لأصدقائه عنها: إنها أسئلة تتعلق بعلوم قلبية من بني فاطمة صلوات اللّٰه وسلامه عليها، ولابد لإجابتها من كون المجيب سيدًا من بني فاطمة رضي اللّٰه عنها مع الرسوخ في العلوم الرسمية، 293 فيتضح من نصوص الشيخ الأكبر والشيخ مهر علي شاه الجيلاني أنها موهبات تختص بسيدنا الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم والعلماء الراسخين من الأولياء والصوفياء ومن هو من سلالته الطيبة على صاحبها ألف تحيات وتسليمات، وهي حقائق وأسرار خفية لا يعرفها غيرهم.
والمقصود من ذكر أبحاث ودراسات الشيخ الأكبر قدس سره المستنبطة الحروف المعجمة وعلومها المتنوعة إيضاح أن الإحاطة بتفاصيل الحروف المعجمة مستبعد، وهي ميزة حروف اللغة العربية بحيث أن الكلام الإلهي قد أنزل فيها، فلا تدانيها أية لغة أخرى لفظًا ومعنى وكمالًا وجمالًا فضلًا عن أن تساويها، وإضافةً إلى ذلك أن الأبحاث والدراسات المعضلة لا يمكن حلها إلا لمن في قلبه علوم نقلية وفنون عقلية متغلغلة مع كونه من سلالة النبي الأمي صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، فيظهر من هذا البسط ظهور الشمس في رابعة النهار أن الحروف المعجمة تحتوي على حقائق كونية وأسرار خفية، فكيف يتصور أن تكون لغة عجمية تضارع العربية في كلماتها وجملها المركبة من البسائط والحروف؟ ومن ثم تطلق على كل لغة غير العربية لغةً عجميةً.
بعد أن انتهينا إلى المرحلة النهائية من كمال اللغة العربية اتضح أنها لغة فائقة من الألفاظ والمعاني والمفاهيم، فإنها تتميز من لغات العالم بأبجديتها، وقواعدها وضوابطها، وصفات الحروف ومخارجها، والمناسبة بين الألفاظ وأصواتها، ثم المناسبة بين تركيبها الصوري والمفاهيم الخارجية الحقيقية، ثم المناسبة بين المعاني وإعراب الألفاظ وحركاتها، ومن أجل ذلك يطلقون العرب على غيرهم عجميًا؛ إشارةً إلى هذه الحقائق الخفية التي تنعدم في لغة أخرى، ولا بد من لفتة هنا، وهي أن اللغات الأخرى لما عجزت عن إتيان كلمة واحدة مثل كلمة عربية فضلًا عن إتيان جملة مستقلة فما إعجاز كلام منزل من اللّٰه تعالى بلسان عربي مبين، وقد أعجز فصحاء العرب وبلغائهم؟، وقد تحدى اللّٰه عز وجل أساطين الفصاحة وسلاطين البلاغة بأن يأتوا بمثل ما أنزل اللّٰه على عبده حيث قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، 294 فلما عجزوا عن معارضة القرآن فتحداهم بإتيان عشر سور من مثله حيث قال تعالى: قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون اللّٰه إن كنتم صادقين، 295 فلما عجزوا عن ذلك فتحداهم بإتيان سورة قصيرة من مثله حيث قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّٰه إن كنتم صادقين، 296 فهو كلام منزل على الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم حيث قال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، 297 فهو كلام إلهي سماوي، أعجز في الفصاحة والبلاغة أرباب الفصاحة والبلاغة من العرب، وإنه أفوق وأبعد من القوة البشرية أن تحيط ببلاغته وفصاحته وإعجازه البلاغي، وتركيب كلماته وتنسيق جمله وآياته، ومطابقة معانيه ومفاهيمه بالواقع، وذلك حجة ظاهرة على كونه كلامًا إلهيًا حيث لم يمكن للعرب أن يعارضوه فضلًا عن أن يعارضه العجم، والأحكام المنزلة والحقائق الواردة فيه تضمن للبشرية قاطبةً أمنًا وسلامًا، وخيرًا وبركةً، وفلاحًا وفوزًا في الدنيا والعقبى.
إن اللغة العربية قد تلقت الأبدية والسرمدية بالكلام الإلهي المنزّل فيها على الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم، ثم فسّره وبيّنه الرسول صلى اللّٰه عليه وآله وسلم للناس بالعربية مصداقًا لقوله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس، 298 والكلام الإلهي كلام أبدي أزلي سرمدي لافناء له ولا زوال، ولا تزال تبقى العربية معه، رغم ذلك إن نزول عيسى عليه السلام أمارة من أمارات الساعة كما قال جلّ وعلا: وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها، 299 وقال الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم فيما راوه أبو هريرة رضي اللّٰه عنه: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مُقْسِطًا، 300 فيحكم على العالم بأكمله، وينفذ الأحكام الشرعية المستنبط من الآيات القرآنية والسنة النبوية على صاحبها ألف تحيات وتسليمات، وذلك فإن عيسى عليه السلام يعلم ما في القرآن والسنة كما يعلم التوراة والإنجيل، كما ذكره اللّٰه تعالى في التنزيل العزيز: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، 301 فيقترب قيام الساعة، ورواه أنس بن مالك رضي اللّٰه عنه أن رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: اللّٰه، اللّٰه302 (وهي كلمة عربية في الأصل)، ثم تقوم الساعة ويحشر اللّٰه الناس فيحين يوم الحساب، والكلام في المحشر والجنة وجهنم لا يكون إلا بالعربية، فتنتهي العربية إلى أصلها ومعدنها وهو الجنة؛ فإن الجنة هي البداية والنهاية للعربية، وللجنة وكل ما فيها دوام لا زوال له ولا فناء.
ونظرًا إلى كون العربية لغة جامعةً كاملةً وأبديةً سرمديةً نقدم اقتراحًا طيبًا إلى أمم ودول العالم بأسره أن يهتموا بتعلم وتكلم اللغة العربية إلى جانب اعتناءهم باللغة الرسمية والمحلية، على الأقل أن يميلوا إلى التكلم الاختياري بها ليتواصلوا مع المسلمين المقيمين في كل بقاع الأرض تواصلًا حضاريًا وثقافيًا واجتماعيًا، ولتقل البغضاء والشحناء بين المسلمين في جميع أنحاء العالم، مع ذلك، إن الأمم والدول العالمية التي بصدد الارتباطات والعلاقات التجارية مع الدول الإسلامية تستفيد من حضارة الإسلام والمسلمين وثقافتهم ومجتمعهم وعباداتهم ومعاملاتهم مباشرةً مع المنفعة المادية التجارية، وكذلك لابد لجميع المسلمين الذين يعيشون في شتى بلاد العالم أن يعتنوا باللغة العربية بعد لغتهم الرسمية اعتناءً كاملًا، فإنها نخبة من اللّٰه تعالى للناس قاطبةً وخاصةً للمسلمين، وهي لغة تحافظ على دين الأمة الإسلامية وعاداتهم وعباداتهم، فحب المسلمين بها من الفطرة التي فطر الناس عليها، وذلك فإنها لسان القرآن ولسان خير البرية صلى اللّٰه عليه وآله وسلم كما أنها منبع العلوم والفنون ولسانها من علم الفقه وعلم الكلام والعقائد ولغة العلوم الشرعية الإسلامية بأسرها، وهي لغة ليلهم ونهارهم ولغة حياتهم بعد مماتهم، كما أن اللّٰه جل وعلا أودع في الإنسان أهلية التعلم كذلك قد أودع في فطرة الإنسان حب اللغة العربية.