Support the largest ever research project (100 Volumes+) on the Seerah of Prophet Muhammad ﷺ.
Your support ensures that his message, mission and teachings reach billions of hearts across the world. Donate Now!
يطلق على أقدم سكان جزيرة العرب وأعرق أقوامها العرب البائدة، وهم الشعوب والقبائل التي اندثرت عن وجه الأرض، فلم يبق لهم في أوراق التاريخ أثر ولا خبر، ولم يبق أحد على بسيط الأرض ينتمي إليهم.كانوا أمما وأقواما استوطنوا الجزيرة بعد الطوفان، فبرزوا وازدهروا وتطوروا وأقاموا سلطات وحكومات، وأنشأوا الحضارات والثقافات مع تكوين الهياكل السياسية والاجتماعية، فكانوا في بداية الأمر يعبدون الله وحده، فابتعدوا مع مرور الزمن عن الحق والتوحيد، فنسوا التمييز بين الحق والباطل، وبين الضلالة والهداية، فأكبوا على الأوثان والأصنام، وبعث الله تعالى إليهم أنبياء ورسلا مصطفين؛ ليدعوهم إلى سواء السبيل؛ لكنهم ثبتوا على معتقداتهم الزائغة الراسخة في قلوبهم، فأنزل الله عليهم أنواعًا من العذاب في شتى الأوضاع والأزمان، ودمرتهم الانقلابات المناخية والأرضية، فاندثرت أطلالهم وانطمست آثارهم عن وجه الأرض. ولم تنكشف في الأدلة التاريخية إلا لوحات حجرية وأطلال وأنقاض من منازلهم ومساكنهم، وقد نطق القرآن بوقائعهم وعقوباتهم؛ ليعتبر بها أولو الأبصار.
من أشهر أقوام العرب البائدة: عاد الأولى، وثمود، وطسم، وجديس، وعمالقة، وجرهم الأولى، وعبيل، وأميم، وحضور، كانت أممًا ضخمةً، أبادهم الزمان وأفناهم الدهر. كان هؤلاء مادة العرب البائدة وأصلها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار. 1 كانوا أقدم الأقوام الذين مضوا قبل آلاف سنة واندثروا وانطمسوا، وهلكوا وفنوا من على وجه الأرض بما عصوا الله وكذّبوا رسله، ولم تبق منهم إلا القصص والحكايات المذكورة في القصائد العربية والصحف السماوية، ما يعتبر بها الآخرون، وما ورد في القرآن من وقائع عاد وثمود هي أيضًا ترتبط بتلك الفترة التاريخية. 2
أطلق جمهور المؤرخين على أعرق شعوب العرب البائدة، وعلى الباقين منهم أو غيرهم العرب العاربة. وبعضهم أدمج البائدة في العاربة. وبناء على هذا القول فإن العاربة هم أقدم العرب وأعرقهم، فمن هلكوا وفنوا منهم عن وجه الأرض فهم العاربة البائدة، ومن بقي منهم فهم العاربة الباقية. فالعرب البائدة هم الذين هلكوا واندثروا، والعاربة هي في الحقيقة أقوام البائدة وأممهم الباقية، الناجية من الهلاك والفناء.
إن العرب البائدة هي أقدم أمة من الأمم من بعد قوم نوح عليه السلام، وأعظمهم قدرة، وأشدهم قوةً وآثاراً في الأرض، وأول أجيال العرب من الخليقة، وكان لهم ملوك ودول، فملوك جزيرة العرب -وهي الأرض التي يحدها بحر الهند جنوبًا، وخليج الحبشة غربًا، وخليج فارس شرقًا، وفيها اليمن والشحر وحضرموت- امتد ملكهم إلى الشام ومصر. ويقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام، فسكنوا جزيرة العرب باديةً مخيّمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وقصور، إلى أن غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان. وهؤلاء العرب البائدة شعوب كثيرة، وهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم، وحضرموت، وحضورا، والسلفات، وقد تسمى العرب البائدة بمعنى الهالكة؛ لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم. 3
ظهروا قبل زمن إبراهيم عليه السلام، أي: فيما قبل القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وبما أنهم قد بادوا تماماً، لا يستطيع أي عربي أن يرجع بنسبه إليهم، لذا نجد أن معظم النسابين يرجعون أصل العرب إلى عرب عاربة، وعرب مستعربة. والعرب العاربة هم عرب الجنوب، ويعرفون بالقحطانيين نسبة إلى قحطان بن عاثر، سكن القحطانيون اليمن وحضرموت، وكانوا على جانب من الاستقرار والتحضر، فقد عرفوا القليل من الزراعة والتجارة والصناعات اليدوية البسيطة. 4
يرى المؤرخون والنسابون أن طسم وجديس أحرقتهم نيران الحرب وأبادتهم. وأما عاد وثمود فكانوا سكان الأحقاف، أشد قوة وآثارا في الأرض، بعث الله إليهم هودا وصالحا عليهما السلام، فكذبوهما فأنزل عليهم السلام. قال الله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ 4 فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ 5 وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ 6 سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ 75 الطاغية هي الصيحة الطاغية، التي تجاوز الحد، حد الصيحات من الهول. والريح الصرصر العاتية هي ريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار، شديدة الهبوب، أرسلها وسلطها الله تعالى على عاد سبع ليال وثمانية متتابعة، لا تفتر ولا تنقطع، فصار القوم في تلك الليالي والأيام موتى هالكين، كأصول نخل بالية متآكلة الأجواف لا شيء فيها.
كانت عاد بالشحر بواد يقال له مغيث وهلكوا به، ثم لحقتهم بعد مهرة بالشحر. وكانت عبيل بموضع يثرب، والعماليق كانوا بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فأخرجوا منها عبيل، فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل السيل فاجتحفهم فذهب بهم فسميت الجحفة. أما ثمود فكانوا بالحجر وما يليه فهلكوا ثم هلكت طسم وجديس باليمامة، وأميم بأرض أبار، وهي بين اليمامة والشحر، ولا يصل إليها اليوم أحد، وغلبت عليها الجن. 6
عرفنا من خلال البحث السابق أن أول من سكن جزيرة العرب بعد الطوفان العرب البائدة، وهم أقدم سكانها، فجعل بعضهم مدنًا وبلادًا، وأقاموا بها حكومات وإمارات قبلية مستقلة بالعراق والشام ومصر والحجاز واليمن، وهم الذين أسسوا حكومة الآشوريين وحضارتهم القديمة، فمحتهم وآثارهم صروف الدهر وتقلبات الأيام، وهم كانوا مادة العرب وأصلهم، وهم أقدم طبقات العرب في شبه الجزيرة العربية. ولا يعرف عصرهم بالتحديد إلا أن البداية كانت بعد الطوفان ونهايتهم مهاجرة إبراهيم عليه السلام إلى مكة المكرمة، وهي مدة تحيط بآلاف السنين.
أول مملكة أقيمت على أرض العرب بعد الطوفان هي مملكة عاد، كانوا خلفاء من بعد قوم نوح عليه السلام، وهم ولد عاد بن حوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، يقال لهم عاد البائدة، وعاد الأولى، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6 إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 7 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ 87 كانوا طوال القامة، ذوي أجسام قوية شديدة، وأشد الناس في زمانهم خلقة، وأقواهم بطشا، ولم يوجد في البلاد كلها مدينة محكمة البنيان ذات أعمدة طوال منحوتة كمدينتهم، والحق لم يوجد مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة كما قال جلّ وعلا: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ 158 كانوا أولي طول مديد وبأس وشدة، ورخاء ونعيم، بسبب كثرة الأرزاق والأموال والأنهار والزروع والثمار، لكن كانوا يعبدون غير الله تعالى، فأرسل الله إليهم هودا عليه السلام، ودعاهم إلى التوحيد، وتكلم معهم على عدة أمور نطق بها القرآن: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128 وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 129 وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ 130 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 131 وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ 132 أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ 133 وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 134 إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 135 قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ 136 إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ 137 وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 138 فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 139 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 1409 فكانت النتيجة أنهم استمروا على تكذيب هود عليه السلام وعلى مخالفته وعناده، فأهلكهم الله بريح شديدة الهبوب ذات برد شديد جدا، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى 5010
عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وهي عاد الأولى. 11 أرسل الله إليهم هودا عليه السلام، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. وقال وهب: هود بن عبد الله بن رياح بن حارث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح. 12
أما مساكنهم فكانت بالأحقاف.قال الله تعالى في التنزيل العزيز: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ……2113 والأحقاف جمع حقف من الرمل. والعرب تسمي الرمل المعوج حقافا وأحقافا، واحقوقف الهلال والرمل إذا اعوج، فهذا هو الظاهر في لغتهم. وأما الأحقاف فهي واد بين عمان وأرض مهرة. 14 قال ابن إسحاق: الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت. 15 وقال قتادة: الأحقاف دمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن. ولا خلاف بين هذه الأقوال، فهي تدل على مكان واحد جنوب الجزيرة وقرب حضرموت. 16 فالحاصل أن ديارهم كانت بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان إلى حضرموت إلى اليمن. 17 ولعل المراد بالأحقاف سواحل الربع الخالي الواقعة في شرقي اليمن، وجنوبي حضرموت.
عاد كان أول من ساد في جزيرة العرب، عمّر طويلا، كثر ولده، وتولى بعده السيادة شديد ثم شداد ثم إرم. وشداد هو الذي عمّر مدينة إرم في صحراء عدن، وزخرف مبانيها وقصورها بالذهب والفضة والياقوت والزبرجد، وبعد أن بناها مزدهرة أحسن المنظر استكبر استكبارا حتى جعلها جنة. ويرى بعض المؤرخين أن بانيها إرم بن عاد، حيث ذكروا أن إرم اسم المدينة في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6 إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 718 فجعلوا لفظة إرم اسمًا لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي: أساطين. 19 وليس ذلك بمستعبد ولا مستحيل. يقول المسعودي: إن جيرون هيكل عظيم البنيان في مدينة دمشق، وهو المعروف بجيرون، وكان بانيه جيرون بن سعد العادي، ونقل إليه عمد الرخام، وهو إرم ذات العماد المذكورة في القرآن. 20
لما عمت فيهم الجاهلية والدعوة إليها، ووصلت غوايتهم وضلالتهم إلى غايتها، فعبدوا الأحجار والأشجار، والتماثيل والأجسام، والأوثان والأصنام، وانغمسوا في الكفر والشكر. وكان ملكهم آنذاك الخلجان بن الوهم. 21 فبعث الله إليهم هودًا عليه السلام مبشرًا ونذيرًا، فكذبوه وجحدوا به، فدعا عليهم، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فأجهدهم ذلك فوجهوا إلى مكة رجالا يستسقون لهم في الحرم، ولم تزل العرب تعظم موضع البيت، وكان موضعه بعد الطوفان ربوة حمراء، وأهله العماليق وسيدهم معاوية بن بكر، فقدم عليه وفد عاد للاستسقاء وفيهم قيل بن عمرو ويزيد بن ربيعة، ونعيم بن هذال، ولقمان بن عاد، فقدموا ونزلوا على معاوية بن بكر وأقاموا عنده شهرا يأكلون ويشربون وتغنيهم الجرداتان وهما قينتان كانتا لمعاوية بن بكر، فلما طال أمرهم أشفق عليهم معاوية بن بكر؛ لأنهم أخواله وخاف عليهم، فصنع شعرا ينبههم به ويحثهم على ما قدموا له، وأمر الجاريتين فغنتاه:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يمطرنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا
قد أمسوا لا يبينون الكلاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما
فانتبه القوم لما سمعوا الشعر ونهضوا يستسقون، فلما استسقوا نشأت لهم ثلاث سحائب بيضاء وسوداء وحمراء، ونودي: قيل: منها اختر لقومك. قال: البيضاء، جهام قد فرغت ماءها، والحمراء ريح والسوداء غيث فاختارها. فقيل: قد اخترت رمادا رمددا، لا يبقي من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا. فدخلت الريح على عاد من واديهم، فأقامت سبع ليال وثمانية أيام حسوما، والحسوم الدائمة حتى هلكوا عن آخرهم، وتهدمت ديارهم ولم يمنعهم جدار ولا جبل حتى هلكوا عن آخرهم، ولم يبق إلا رسمهم. 22
كان الناس أمةً واحدةً، على دين واحد بعد الطوفان، فركن بعض من عاد إلى عبادة الأوثان، وهم أول الأمم الذين عبدوا الأصنام بعد الطوفان. وكانت أصنامهم ثلاثة: صدا، وصمودا، وهرا. 23 فبعث الله إليهم هودا، وأمرهم أن يوحدوا الله عزّ وجلّ، ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن عبادة الأوثان، وعن الظلم والعدوان، فأبوا عليه وكذبوه، وأظهر عليهم معجزاته ودلائل نبوته، لكنهم استمروا على كفرهم، وقد تغلغل في نفوسهم واستحوذ عليهم، فما آمن منهم إلا قليل، فأهلك الله الآخرين.
ورد ذكرهم في السور العشرة: سورة الأعراف، وهود، والمؤمنون، والشعراء، وفصّلت، والأحقاف، والذاريات، والقمر، والحاقة، والفجر. وذكرت في بعضها آلاء الله التي نزلت عليهم، من مساكنهم وعشائرهم وقوتهم وبطشتهم وطولهم، وفي بعضها أيام الله، من أنواع العذاب والعقاب. كان عاد أول من تمكن من السيادة في معظم شبه الجزيرة العربية بعد نوح عليه السلام، وكان شعبه أقوى شعب في هذه المنطقة، ولقد أنعم الله عليهم بآلاء لا تعد ولا تحصى. قال الله تعالى: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ 6924 وقال لهم هود عليه السلام عندما دعاهم إلى التوحيد فذكرهم نعم الله عليهم: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ 128 وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ 12925 وقال جلّ وعلا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6 إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 7 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ 826 كانوا أولي قوة وبأس شديد، ينحتون القصور من الجبال والصخور، ولما دعاهم هود عليه السلام فكذبوه وسخروا منه: قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 53 إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 5427 فأهلكهم الله بعذاب دمّر ديارهم وجعلهم عبرةً للآخرين، وقد ورد ذكرهم غير مرة في القرآن موجزًا ومفصّلًا.
تفصيل العذاب الذي نزل عليهم هو أن عادا أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هودًا عليه السلام، فلما أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة يستسقون لكم. فبعثوا قيل بن عير، ولقيم بن هزال، ومرثد بن سعد وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر، في سبعين رجلًا من قومهم. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكة خارجًا عن الحرم، فأكرمهم وكانوا أخواله وصهره؛ لأن لقيم بن هزال كان تزوج هزيلة بنت بكر أخت معاوية، فأولدها أولادًا كانوا عند خالهم معاوية بمكة، وهم عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم، وهو عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى. فلما نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية- فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شق عليه ذلك. وقال: هلك أخوالي، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له، فذكر ذلك للجرادتين فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قائله لعلهم يتحركون، فقال معاوية:
ألا یاقیل ویحك قم فهینم
لعل الله یصبحنا غمامًا
فیسقي أرض عاد إن عاد
قد أمسوا لا یُبینون الکلاما 28
فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم. فقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر حين سمع قوله، وعرف أنه قد تبع دين هود وآمن به:
أبا سعد فإنك من قبيل
ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لن نطيعك ما بقينا
ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك آل رفد
وزمل وآل صد والعبود
ونترك دين آباء كرام
ذوي رأي ونتبع دين هود
رفد وزمل وصد قبائل من عاد، والعبود منهم. ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احبسا عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية، حتى أدركهم بها قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعو الله، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون، فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي، ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد، وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد. وقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله، وقد كان تخلف عن وفد عاد لقمان ابن عاد، وكان سيد عاد، حتى إذا فرغوا من دعوتهم، قال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي، وقال قيل بن عتر حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا، فأنشأ الله سحائب ثلاثًا: بيضاء، وحمراء، وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب. فقال: قد اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء. فناداه مناد: اخترت رمادا رمددًا، لا تبقي من عاد أحدًا، لا والدًا تترك ولا ولدًا إلا جعلته همدًا، إلا بني اللوذية المهدى -وبنو اللوذية بنو لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر، كانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم، لم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد- وساق الله السحابة السوداء فيما يذكرون التي اختار قيل بن عتر بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث. 29 فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ 24 تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ……2530
كان أول من أبصر ما في السحاب أنها ريح امرأة من عاد، يقال لها مهدد، 31 أو فهدد. فصاحت وصعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها. فلما خرجت الريح من الوادي قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله فتدق عنقه، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل. وقال:
لم يبق إلا الخلجان نفسه
يا لك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديد وطسه
لو لم يجئني جئته أجسه 32
فقال له هود: ويحك، أسلم تسلم. قال: وما لي إن أسلمت؟ قال: الجنة. قال: فما هؤلاء الذين أراهم في السحاب كأنهم البخت؟ قال: الملائكة. قال: فإن أسلمت يعيذني ربك منهم؟ قال: ويحك، هل رأيت ملكا يعيذ من جنده؟ قال: ولو فعل ما رضيت. ثم جاءت الريح فألحقته بأصحابه. 33 وهي ريح صرصر عاتية، قال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ 6 سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ 734
فلما نظروا إليها قالوا: هذا عارض ممطرنا. فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها تبادروا الى البيوت، حتى دخلوا البيوت دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم في يوم نحس، والنحس هو الشؤم، واستمر عليهم العذاب سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، أي: حسمت كل شيء مرت به، حتى أخرجتهم من البيوت. فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سودا، فنقلتهم إلى البحر، فألقتهم فيه. 35 وذلك قوله تعالى: ……فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ……2536
كان هود عليه السلام والمؤمنون معه في معزل منهم، في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلا تليين الجلود، وإنها لتمر من عاد بالظعن وما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة، وعاد وفد عاد إلى معاوية بن بكر فنزلوا عليه، فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود عليه السلام. 37 وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ 5838 فأبادهم العذاب الغليظ ومحاهم وآثارهم ومساكنهم، والهالكة هي عاد الأولى، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى 5039
كانت ثمود أمة من الساميين. 40 وثمود مشتق من الثمد وهو الماء القليل. 41 وهم من نسل الذين نجوا مع هود عليه السلام، ويقال لهم: عاد الثانية أو عاد الآخرة. 42 لما هلكت عاد الأولى فجاءت ثمود وأقاموا سلطتهم وسيطرتهم، ولم يكونوا أقل من عاد في القوة والطول والشدة والبطشة. قال الله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 5743 وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 7444 وقال لهم نبيهم صالح عليه السلام: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ 146 فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 147 وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ 148 وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ 14945 كانت ثمود خلفاء عاد، أنعم الله عليهم بنعم كثيرة لاعداد لها، ومن أبرزها نحت البيوت والقصور من الجبال والصخور، وطول أعمارهم، وقوتهم الشديدة. كانوا يبنون المساكن فتنهدم، فلما طال ذلك عليهم اتخذوا من الجبال بيوتا فنحتوها وعملوها على هيئة الدور. 46
هذه الأنقاض والأطلال والآثار القديمة تشير إلى مهارتهم وبراعتهم في النحاتة والبناء، وما زالت بيوتهم المنحوتة في الجبال باقية إلى يومنا هذا ماثلة للعيان.
كانوا ساكنين في اليمن في بداية الأمر، ولما تسلطت عليهم حمير طردوهم إلى الحجاز، فعمروا مساكنهم ومستوطناتهم بين الحجاز والشام في وادي القرى، وكانت عاصمة بلاد ثمود الحجر التي تقع على الطريق القديم الذي يمتد من الحجاز إلى الشام، وعلى الطريق نفسه مدينة أخرى لثمود فج الناقة، والتي صحفها اليونان إلى بندناتا، ولكن المدينة الحقيقية كانت الحجر، والتي تسمى الآن مدائن صالح. 47 وعاصتهم كانت الحجر، تقع بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. 48 وادي القرى هو المراد بقوله تعالى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ 949 ذكر المفسرون: المراد هنا هو وادي القری بالقرب من المدینة الشریفة من جهة الشام. 50 وما زالت تقع بين المدينة والشام، وقد كتب الجغرافيون المسلمون عن آثار ثمود وأطلالهم ومساكنهم ومواطنهم، وما زال يعتبر بها أولو الألباب.
قال ابن خلدون: كانت ديارهم بالحجر ووادي القرى فيما بين الحجاز والشام. 51 وقد مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ونهى عن دخولها. 52 وقد وردت إشارات عنهم في الشعر الجاهلي، وتكاد تجمع الكتب العربية على أن ثمودا إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام، على أن ارتباطها بعاد يقتضي تقاربهما في المكان، ولذا ذهب الأخباريون إلى أن ثمودا إنما كانت باليمن قديما، فلما ملكت حمير أخرجوها إلى الحجاز، ولقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الثموديين قد عاشوا في شمال الجزيرة العربية منذ أعماق التاريخ. 53
صالح عليه السلام هو ابن عبيل بن آسف بن شالخ بن عبيل بن كاثر بن ثمود. 54 وقيل: هو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن خادر بن ثمود. 55 أرسله الله تعالى إلى ثمود، وكانوا يعبدون غير الله، يعبدون الكواكب والنجوم. قد ورد ذكرهم في القرآن بأساليب متنوعة، قال الله تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ 6156 ودعاهم صالح عليه السلام إلى التوحيد والإيمان بربوبية الله، فلم يؤمن به إلا قليل منهم، وقالوا له: قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ 6257
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دعاهم صالح إلى الله تعالى اقترحوا عليه ناقة؛ لأنهم كانوا أصحاب إبل، وكانت النوق عندهم عزيزة، فطلبوا منه الدلالة من حيث ما هم عليه ثم تنطعوا، فقالوا: لتكن سوداء حالكة، عشراء ذات عرف وناصية ووبر. فسأل الله، فأوحى الله إليه: اخرج بهم إلى فضاء من الأرض، فخرجوا. فقال: من أين تريدونها؟ فأشاروا إلى صخرة، وقالوا: من هذه. فأشار إليها صالح. وقال: اخرجي بإذن الله. فتمخضت تمخض الحامل وانفجرت عن ناقة كما طلبوا، ثم تلاها من الصخرة فصيل لها، فآمن خلق ممن حضر، منهم ملكهم جندع بن عمرو. ثم قال لهم صالح: لها شرب يوم ولكم شرب يوم؛ لأن مياههم كانت قليلة، فكانت تشرب ماء الوادي في يوم، ويحلبونها في يوم، فيشربون لبنها عوض ما شربت. 58 ذكر الله تعالى في القرآن هذا المشهد: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ 153 مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 154 قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ 155 وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ 15659 وقال لهم صالح عليه السلام: وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ 6460
لكنهم لم يمتثلوا بأمر الله، ولم يسمعوا نصح صالح عليه السلام، قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا 11 إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا 12 فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا 13 فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا 14 وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا 1561 فكذبوه وعقروها، عقرها بأمرهم قدار بن سالف، فجاء الخبر إلى صالح فأقبل فرآها كذلك، فوقف يبكي، فجاء قومه يعتذرون إليه ويقولون: إنما عقرها فلان وفلان. ولما عقرت صعد فصيلها إلى الجبل، فقال لهم صالح: انظروا، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فمضوا خلفه فلم يقدروا عليه، ولما علا على الجبل رغا ثلاثة أصوات، وهذا الجبل يقال له: القارة، وكان قصيرًا. فلما قصدوا الفصيل طال إلى عنان السماء، وصعد صالح ورآه، فلما رآه سالت دموع الفصيل على خديه، فقال لهم صالح: لكل رغوة يوم. 62 قال تعالى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ 6563 وآية العذاب أن تصبح وجوهكم في اليوم الأول محمرة، وأن تصبح في اليوم الثاني مصفرة، والثالث مسودة، وذلك في يوم الخميس والجمعة والسبت. وكانوا في ذلك الوقت يسمون الأيام بأسمائها القديمة، فيوم الخميس مؤنس، والجمعة عروبة، والسبت شيار. فأصبحت وجوههم في اليوم الأول كأنما طليت بدم. وفي اليوم الثاني كأنما طليت بالخلوق. وفي اليوم الثالث كأنما طليت بالقار. ونودوا ألا إن العذاب قد حضر. فتحنطوا وتكفنوا بالأنطاع، وحفروا قبورهم ونزلوا فيها، ظنًا منهم أن الله يرحمهم، فإذا بجبريل عليه السلام قد ظهر من المشرق، فسد عين الشمس وصاح بهم صيحةً ارتجت لها الدنيا، وقال: موتوا لعنكم الله. فتقطعت قلوبهم في صدورهم وماتوا جميعًا، قال الله عز وجل: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ 66 وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ 67 كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ 6864 فوقع ما أوعدهم، حان وقت العذاب وحل العقاب، ونزلت الصاعقة ووقعت، وبادت ثمود وهلكت، فهاجر صالح إلى الشام وسكن أرض الأنبياء، أرض فلسطين، ثم غادرها وراح إلى مكة المكرمة، وأقام بها حتى توفاه الله.
طسم وجديس هما ابنا لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. 65 ولد لهما أولاد أصبحوا قبيلتي طسم وجديس اللتين كانتا من العرب البائدة، كانت مساكنهم باليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها، وأكثرها خيرًا وثمارًا وحدائق وقصورًا. 66
ساق الأخباريون نسب طسم على هذه الصورة، طسم بن لاوذ بن إرم، أو طسم بن لاوذ بن سام، أو طسم بن كاثر، أو ما شابه ذلك من نسب. ونحن لا نعرف الآن من أمرهم غير ما ورد من القصص المدون في الكتب، ولم يرد لهم ذكر في القرآن الكريم. وقد جعلهم بعض أهل الأخبار من أهل الزمان الأول، أو من عاد. وقد شك الأخباريون في الأخبار المنسوبة إلى طسم؛ إذ اعتبروها أخبارا موضوعة. فقال بعضهم: وأحاديث طسم يقال لما لا أصل له. وتقول لمن يخبرك بما لا أصل له أحاديث طسم وأحلامها. وطسم إحدى قبائل العرب البائدة، بعضهم في الأحقاف والبحرين.67
قيل: كان ملك طسم جبارًا لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له: عملوق، وكان مضرًا لجديس مستذلًا لهم حتى كانت البكر من جديس لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل على عملوق هذا فيفترعها. والسبب في ذلك أن امرأة منهم تسمى هزيلة، طلقها زوجها وأخذ ولده منها، فأمر عملوق ببيعها، فبيعت وأخذ زوجها خمس ثمنها، فقالت شعرًا تتظلم منه. فأمر أن لا تزوج منهم امرأة حتى يفض بكارتها، فامتثلت جديس لأوامر عملوق، ودامت هذه الحالة حتى تزوجت الشموس وهي عفيرة ابنة غفار بن جديس، أخت الأسود، فافتضّها عملوق. فقال الأسود بن غفار لرؤساء جديس: قد ترون ما نحن فيه من الذل والعار الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، فأطيعوني، أدعكم إلى عز الدهر. فقالوا: وما ذاك؟ قال: أصنع للملك وقومه دعوة فإذا جاؤوا - يعني طسما وملكهم عملوق - نهضنا إليهم بأسيافنا فنقتلهم. فأجمعوا على ذلك، ودفنوا سيوفهم في الرمل ودعوا عملوقا وقومه، فلما حضروا قتلوهم فأفنوهم، وقتل الأسود عملوقًا، ولم ينج منهم إلا رباح بن مرة بن طسم.
وأتى رباح حسان بن تبع مستغيثًا، فنهض حسان في قبيلته حمير لنجدته حتى كان من اليمامة على ثلاث مراحل. فقال لهم رباح: إن لي أختا مزوجة في جديس اسمها اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها، وأنها لتبصر الراكب على ثلاث مراحل، وأخاف أن ترانا فتخبر القوم، فأمر كل رجل أن يقلع شجرة فيجعلها في يده، ويسير كأنه خلفها، ففعلوا. وبصرت بهم اليمامة فقالت لجديس: لقد سارت إليكم حمير، وإني أرى رجلًا من وراء شجرة، بيده كتف يتعرقها أو نعل يخصفها، فاستبعدوا ذلك، ولم يحفلوا به، فما أحسوا إلا وحمير مصبحين بينهم شاهرين سيوفهم، فأباد حسان جديس وخرب حصونهم وبلادهم، وهرب الأسود بن غفار إلى جبلي طيء فأقام بهما، ودعا تبع -أبو حسان- باليمامة أخت رباح التي أبصرتهم فقلع عينها. ويقال: إنه وجد بها عروقا سودا زعمت أن ذلك من اكتحالها بالأثمد، وكانت البلدة تسمى جو، فسميت باليمامة على اسم تلك المرأة. 68 وقد ضرب أهل الأخبار المثل بـكلب طسم، وذكروا قصته على هذا النحو: كان لرجل من طسم كلب، وكان يسقيه اللبن ويطعمه اللحم ويسمنه، يرجو أن يصيب به خيرا ويحرسه، فجاع يوما فهجم على صاحبه وأكله، فضرب به المثل فقيل: سمن كلبك يأكلك. 69
كان للاوذ أربعة من الولد، وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس. 70 وحكي عن قدماء النسابين: أن لاوذ هو ابن إرم بن سام أخو عوص وكاثر. وقالوا: كان جديس وثمود أخوين، وطسم وعملاق أخوين أبناء عم لحام، وكلهم بنو عم عاد. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أول من خرج من اليمن وشخص إلى أرض تهامة عملوق قال: عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح النبي عليه الصلاة والسلام. 71 وقيل: إن عمليق أول من تكلم بالعربية. 72 وأما العمالقة فهم بنو عمليق بن لاوذ، وبهم يضرب المثل في الطول والجثمان. قال الطبري: عمليق أبو العمالقة، كلهم أمم تفرقت في البلاد. فكان أهل المشرق وأهل عمان والبحرين وأهل الحجاز منهم، وكانت الفراعنة بمصر منهم، وكانت الجبابرة بالشام - الذين يقال لهم الكنعانيون – منهم. فالذين بالبحرين وعمان والمدينة يسمون جاسم، وكان بالمدينة من جاسم هؤلاء: بنو لف، وبنو سعد بن هزال، وبنو مطر، وبنو الأزرق. وكان بنجد منهم بديل وراحل وغفار، وبالحجاز منهم إلى تيما بنو الأرقم، وسكنوا مع ذلك نجدا، وكان ملكهم يسمى الأرقم. 73
ذكر أن العماليق لحقت بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فأخرجوا منها عبيلًا، وسكنوا في ديارهم، وذهبت عبيل إلى موضع الجحفة، فأقبل السيل فاجتحفهم، فذهب بهم، فسميت الجحفة. وذكروا أن موسى عليه السلام أرسل جيشًا لحرب عماليق يثرب، وليس في التوراة ذكر لمثل هذا الجيش، أو الحرب. 74
كانت مواطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز، نزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حام، ولم يزالوا كذلك إلى أن جاء إسماعيل عليه السلام وآمن به من آمن منهم، واستمر الملك لهم إلى أن كان منهم السميدع من لاوذ بن عمليق، وفي أيامه خرجت العمالقة من الحرم، أخرجتهم جرهم من قبائل قحطان، فتفرقوا، ونزل بالمدينة منهم بنو عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق، فعرفت به، ونزل أرض أيلة بن هومر بن عمليق واتصل ملكها في ولده.75 ومن هؤلاء العمالقة فيما يزعمون عمالقة مصر، وأن بعض ملوك القبط استنصر بملك العمالقة بالشام لعهده واسمه الوليد فجاء معه ملك مصر واستعبد القبط. ومن ثم ملك العماليق مصر، ومنهم فرعون إبراهيم وهو سنان بن الأشل بن عبيد بن عولج بن عمليق، ومنهم فرعون يوسف، وهو الريان بن الوليد بن فوران، وفرعون موسى كذلك، وهو الوليد بن مصعب بن أبي هوان بن الهلوان. 76
كانت أميم في طبقة طسم وجديس. كانوا من نسل لاوذ بن عمليق، أو لوذ بن نوح، أو ما شابه ذلك، وكان من شعوبهم وبار بن أميم. 77 وكان ديارهم فيما يقال أرض فارس، ولذلك زعم بعض نسابة الفرس أنهم من أميم، وأن كيومرث الذين ينسبون إليه هو ابن أميم بن لاوذ. 78 والأول أصح، وصرح ابن خلدون تعقيبا على القول الثاني على أنه ليس بصيحح. كانت أميم أول من بنى البنيان، واتخذ البيوت والآطام من الحجارة، وسقفوا بالخشب. 79 لحقوا بأرض أبار فهلكوا بها، وهي بين اليمامة والشحر، ولا يصل إليها اليوم أحد، وغلبت عليها الجن وإنما سميت أبار بأبار بن أميم. 80
رويت لوبار قصص وأساطير في الأدب العربي، ومن جملتها أسطورة النسناس، وتتلخص في أنهم من ولد النسناس بن أميم بن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام، وأنهم كانوا في الأصل بشرًا، فجعلهم الله نسناسًا، للرجل منهم نصف رأس، ونصف وجه، وعين واحدة، ويد واحدة، ورجل واحدة، وأنهم صاروا يرعون كما ترعى البهائم، وأنهم يقفزون قفزًا شديدًا ويعدون عدوًا منكرًا. 81
ولم يذهب اسم وبار من ذاكرة سكان العرب حتى هذا اليوم، فهم يرون أن في الربع الخالي موضعًا منكوبًا هو الآن خراب، هو مكان وبار، وقد قاد بعض الأعراب فلبي إلى موضع في الربع الخالي، قال له عنه إنه مكان وبار، المدينة التي غضب الله عليها، فأنزل بها العقاب، وصارت خرابا. 82
عبيل مثل أميم لا نعرف من أمرهم غير نتف ذكرها الأخباريون الذين زعموا أنهم إخوان عاد بن عوص، أو إخوان عوص بن إرم، وأنهم لحقوا بموضع يثرب حيث اختطوا يثرب، وكان الذي اختطها منهم رجل يقال له يثرب بن باثلة بن مهلهل بن عبيل. 83 وكان عبيل في يثرب حتى لحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيلًا، فنزلوا موضع الجحفة فأقبل سيل فاجتحفهم فذهب بهم فسميت الجحفة. 84
وقد ورد في التوراة اسم أحد أبناء يقطان، هو عوبال أو عبال، وهذا الاسم قريب من عبيل، لذلك رأى بعض علماء التوراة أن من الممكن أن يكون عبيل هو عوبال. 85 أما عبد ضخم، فكانت تسكن على قول الأخباريين الطائف، وهلكوا فيمن هلك من الشعوب البائدة. وكانوا أول من كتب بالخط العربي. وذكر الطبري أنهم حي من عبس الأول. ويذكر أهل الأخبار أن أمية بن أبي الصلت ذكر بني عبد ضخم في شعره. 86
جرهم هؤلاء، هم غير جرهم القحطانية على رأي النسابين والأخباريين، ولذلك يقولون لجرهم هذه جرهم الأولى، ولجرهم القحطانية جرهم الثانية. ويقولون عن الأولى: إنهم من طبقة العرب البائدة، وإنهم كانوا على عهد عاد وثمود والعمالقة. 87 وقد ذكر الأخباريون أن جرهم كان من الذين ركبوا مع نوح عليه السلام في السفينة. ويقولون: كان في سفينة نوح رجل يقال له جرهم، لسانه لسان العرب الأول. 88
قيل: كان مع نوح في السفینة جرهم بن عابر؛ وذلك أنه من ولد ولده. 89 أطلق على ولده جرهم الأولى، كانوا ينطقون بالعربية التي ورثوها من جدهم نوح عليه السلام؛ فإن جرهم لم يكن نبيًا ليتعلم العربية إلهامًا، ولم يثبت ذلك بأي دليل. أما القول بأن جميع من كان مع نوح في السفينة سرياني إلا رجل واحد يقال له جرهم وهو عربي، فيه نظر؛ وذلك لأنه لا بد أنه تعلم العربية من أحد، وليس هو إلا نوح عليه السلام، وكان نوح ينطق العربية بلهجات عديدة، ومن ثم لسانه سرياني.
كانت بنو جرهم قبیلة من العرب العاربة البائدة، ذکرهم ابن سعد وقال: کانوا علی عهد عاد فبادوا، ومقتضی ذلك أنهم کانوا قبل قحطان. 90 ويظهر من روايات الأخباريين أنهم كانوا يقيمون بمكة، ويرجعون أنسابهم إلى عابر، وأنهم أبيدوا: أبادهم القحطانيون. 91
هذا ويلاحظ أن هلاك العرب البائدة كان بسبب كوارث طبيعية نزلت بهم مثل انحباس المطر جملة سنين مما يؤدي إلى هلاك الحيوان وجوع الإنسان، واضطراره إلى ترك المكان والارتحال عنه إلى موضع آخر، قد يجد فيه زرعا وماء وقوما يسمحون له بالنزول معهم؛ كرها لقوته ولتغلبه عليهم، أو صلحا بأن يسمح الأقدمون له بالنزول في جوارهم؛ لاتساع الأرض وللفائدة المرجوة للطرفين. وقد يتفرق ويتشتت بين القبائل، فيندمج فيها بمرور الزمن ويلتحق بها في النسب والعصبية، فيكون نسبة النسب الجديد، وبذلك ينطمر ذكر القبيلة القديمة والأصل الذي كان منه، وقد لا يبقى منه غير الذكريات كالذي رأيناه من أمر القبائل البائدة. وقد تكون الكارثة هيجان حرات وهبوب عواصف رملية شديدة عاتية تستمر أياما، واهتزازات أرضية في الأرضين غير المستقرة، مما يلحق الأذى بالناس، ومن هنا نجد ذكر هذه الكوارث في القرآن الكريم، وفي الأخبار الواردة عن هلاك القبائل المذكورة فيه، أو التي لم ترد فيه، وإنما يذكر أسماءها أهل الأخبار. 92