إن الأديان التي تدينتها العرب في العصر الجاهلي كانت أديانا ومذاهب مختلفة، منها الحنيفية واليهودية والنصرانية والوثنية والظواهرية والإلحاد والشرك المطلق. فقد كانت في ذلك العصر المظلم، المليء بالجهل والضلال، والذي أخام عليه الفسق والفجور، وأحدقها الكفر والظلم بحذافيره، نفوس زكية، تتضلع بالإيمان بوحدانية اللّٰه، وتعتقد بربوبيته، وتؤمن بدينه الحنيف، بالرغم من أنها طائفة قليلة، لكنها جلة جليلة، فاعتزلوا الأصنام والأوثان، ورفضوا العقائد الضالة والأفكار الزائغة، وأكثرهم كانوا في مكة المكرمة، على دين إبراهيم عليه السلام وعلى عقائده الصافية؛ فإن بني إسماعيل الذين استوطنوا جزيرة العرب كانوا على دين واحد، هو دين إبراهيم، دين الحنيفية ودين التوحيد، الدين الذي بعث بأمر اللّٰه من جديد، فتجسد وتمثل في الإسلام، وكان العرب مثل غيرهم قد ضلوا الطريق، وعموا عن الحق، وغووا بعبادتهم الأصنام، حببها لهم الشيطان، ومن اتبع هواه من العرب، وعلى رأسهم ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب عمرو بن لحي. 1 ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعا كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعي على دين إبراهيم، كانوا موحدين يعبدون اللّٰه جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. 2
بالرغم من أن الوثنية كانت سائدة في جزيرة العرب، وأن المتدينين بديانات أخرى كانوا أكبر عددا، كان فيهم من استبصر ببصیرته واعترف بوجود اللّٰه وتوحیده، ولم يدرك دعوة محمد صلى اللّٰه عليه وسلم، بل بقي علی أصل فطرته، ونظر بعین بصیرته، فلم یغیر ولم یبدل، وهم البقایا ممن كان علی عهد إبراهیم وإسماعیل عليهما السلام، ملتزمین ما کانوا علیه من تعظیم البیت والطواف به والحج والعمرة والوقوف علی عرفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة وغیر ذلك. 3 وهم الذين سموا بالموحدين وبالحنفاء في العصر الجاهلي؛ نسبةً إلى إبراهيم عليه السلام. قال اللّٰه تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 674 فأصبحت كلمة الحنيف تميز دين إبراهيم عليه السلام عن اليهودية والنصرانية والوثنية والشرك، فإن اليهود والنصارى حرّفوا كتبهم وغيّروا أديانهم وأدخلوا فيها ما لم يكن منها؛ ولكن الدين الحنيف دين إبراهيم عليه السلام هو دين منزه من العقائد الزائغة. ويرى العرب أن الحنيف نعت لإبراهيم عليه السلام فسموا دينه الملة الحنيفية، وكان الصالحون من العرب إذا يئسوا من الأديان التي حولهم من عبادة الأصنام واليهودية والنصرانية فزعوا إلى الدين الحنيف. 5 والحنيف: المسلم الذي يتحنف عن الأديان أي يميل إلى الحق. وقيل: هو الذي يستقبل قبلة البيت الحرام على ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقيل: هو المخلص. وقيل: هو من أسلم في أمر اللّٰه فلم يلتو في شيء. وقيل: كل من أسلم لأمر اللّٰه تعالى ولم يلتو، فهو حنيف. 6 فمن كان على دين إبراهيم سمي حنيفا، ثم سمي من كان يختتن ويحج البيت في الجاهلية حنيفا. ويقال: إنما سمي إبراهيم حنيفا؛ لأنه كان حنف عما كان يعبد أبوه وأمه من الآلهة إلى عبادة اللّٰه أي عدل عن ذلك ومال. وأصل الحنف ميل من إبهامي القدمين كل واحدة على صاحبتها. 7
كان دين إبراهيم عليه السلام دين الفطرة، وعليه العرب منذ زمن إسماعيل عليه السلام، فلما نشبت الجاهلية أظفارها ومسخت أصل الديانة الإبراهيمية فبقيت منها في العرب بعض أحكام وأعياد وأعراف وأفراح وأعمال. أما التوحيد فكان سائدا في كثير من المناطق والقبائل العربية، بالإضافة إليه يؤمن بعض الموحدين بعقائد الدين الأصلي وأركانه. نذكر أسماء بعض الموحدين والحنفاء وأحوالهم فيما يلي.
ذهب بعض أهل التاريخ والسير إلى أن الحنفاء في الجاهلية كانوا أربعة. ولكن الأدلة التاريخية تشير إلى أنهم أكثر من أربعة، تركوا عبادة الأوثان، ورفضوا رجس الشرك وأقروا بالتوحيد، وابتعدوا عن القرابين والهدايا والنذور التي تقدم للآلهة والأصنام. فنجد في صفحات التاريخ قبيل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم رجالا كانوا حنفاء، وهم: حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان العبسي، وأرباب بن رئاب، وعثمان بن الحویرث، وأسعد أبو کرب الحمیري، وقس بن ساعدة الإيادي، وأمية بن أبي الصلت، وورقة بن نوفل القرشي، وزید بن عمرو بن نفیل، وعداس مولى عتيبة بن ربيعة الثقفي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس الأنصاري، وأبو عامر الأوسي، وعبد اللّٰه بن جحش الأسدي، وسويد بن عامر المصطلقي، ووكيع بن سلمة الأيادي، وعمير بن جندب الجهمي، وعدي بن العبادي، وسيف بن ذين يزن، وزهير بن أبي سلمى، وعبد اللّٰه القضاعي، وعبيد بن الأبرص، وكعب بن لؤي بن غالب.8 ونذكر أحوال بعضهم فيما يلي.
هو أحد أجداد النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، كان يخطب قريشا يجتمعون عليه في كل جمعة، فكان يأمرهم فيها بالإطاعة والفهم والتعلم والتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القرابة والتصدق على الفقراء والأيتام، ويذكرهم بالموت وأهواله واليوم الموعود وأحواله، ويبشرهم بمبعث رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه إن أدركوه، وأنه يخرج من بيت اللّٰه الحرام، وينشد شعرا يذكر فيه ذلك، ويتشوق إلى مشاهدة دعوة النبي صلى اللّٰه عليه وسلم وغير ذلك مما يعد من فطن الإلهامات وصادق التخيلات، وهذا من أوضح البراهين على تمسكه بدين إبراهيم عليه السلام وأخذه بالحنيفية والإسلام. 9
قس بن ساعدة الإيادي كان موقنا بآيات اللّٰه، وكان حكيم العرب. 10 وهو أول من قال: أما بعد بعد داؤد عليه السلام كما قاله البعض. 11 كان قد لزم العبادة في كعبة نجران، فقيل له: قس نجران. وهو أول من اتكأ على عصا. 12 وأول من قال: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر. 13 كان يقف بسوق عكاظ ويعظ الناس، وكان خطيبا بليغا وشاعرا حكيما. 14 وذكر رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم أنه رآه يخطب بعكاظ على جمل أحمر. 15
روي عن ابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وغيرهم رضي اللّٰه عنهم أن وفد إياد لما قدموا على النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وأسلموا، سألهم رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم عن قس بن ساعدة. فقالوا: يا رسول اللّٰه، مات. قال صلى اللّٰه عليه وسلم: (( كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أحمر أورق وهو يخطب الناس، وهو يقول كلامًا ما أراني أحفظه )). فقال بعض القوم: نحن نحفظه يا رسول اللّٰه. فقال: (( هاتوا )). فقال قائلهم إنه قال: أيها الناس، اسمعوا، وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جميع وأشتات، وآيات بعد آيات. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسما حقا لا حانثا فيه ولا آثما، إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا خاتما حان حينه، وأظلكم أوانه، وأدرككم إبانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه. ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية، يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعواد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى رشيد؟ وزخرف ونجد وغره المال والولد، أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى؟ وقال: أنا ربكم الأعلى، ألم يكونوا أكثر منكم أموالا وأولادا، وأبعد منكم آمالا، وأطول منكم آجالا، طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم الدهر بتطاوله، فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خالية، عمرتها الذئاب العاوية. كلا، بل هو اللّٰه الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود. 16 وقال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: فأيكم يروي شعره؟ فأنشده أبو بكر الصديق رضي اللّٰه عنه قال:
في الذاهبين الأولي
ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي
ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر 17
قس بن ساعدة عمّر ستمائة سنة. 18
ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، كان من ولد نوفل بن أسد، وأمه هند بنت أبي كثير. 19 كان قد تنصر واستحكم في النصرانية، وحصل الكتب، وعلم علما كثيرا. 20 وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء اللّٰه أن يكتب. 21 وكان رجلا عليما نافذ العلم في التوراة والإنجيل ودقائقهما وأخبار النبوة الأولى. 22 وكان شيخا كبيرا قد عمي. 23
ولما رجع النبي صلى اللّٰه عليه وسلم من غار حراء إلى خديجة رضي اللّٰه عنها بعد ما نزل عليه أول الوحي وفؤاده يرتجف، فأخبرها، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل وأخبره رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم خبر ما رأى. فقال ورقة: هذا الناموس الذي نزله اللّٰه به على موسى. يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. 24 ولذلك ذكره الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم في الصحابة. 25 روي أنه سئل رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم عن ورقة فقال: رأيته فى المنام، عليه ثياب بيض، فقد أظن أنه لو كان من أهل النار، لم أر عليه البياض. 26 وفي وفاته روايتان: إحداهما أنه أدرك الإسلام وعاش زمنا ثم توفي. قال عروة بن الزبير رضي اللّٰه عنهما في خبر تعذيب بلال: كان أهل مكة يعذبون بلالا برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء؛ لكي يشرك. فيقول: أحد أحد! فيمر به ورقة، وهو على تلك الحال، فيقول: أحد أحد، يا بلال، وهذا يعني أنه أدرك إسلام بلال. 27 والثانية وهي الراجحة أن ورقة لم يلبث بعد بدء الوحي أن توفي. 28
أمية بن أبي الصلت الثقفي كان من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام. كان واقفا على كتب اليهود والنصارى، قارئا لها، مطلعًا على العبرانية أو السريانية أو على اللغتين معا. وإنما كان من الأحناف على حد تعبير أهل الأخبار. كان في الأصل من الطائف، له قرابة في قريش، أمه كانت رقية أخت عبد شمس بن عبد مناف الأموية العبشمية. فكان من أقرباء بني أمية، وكانت له قرابة قريبة بأبي سفيان رضي اللّٰه عنه، كان شعره صادقا متحنفا، أيده الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم بقوله: (( آمن شعره، ولم يؤمن قلبه )). 29
كانت في جزيرة العرب قبائل متحنفة تنحرف إلى الديانية الحنيفية، منها الطائف وبنو ثقيف من هوازن، وبنو سعد بن بكر، وبنو كنانة، وهمدان، وكندة، وهير، وغفار، وليث، وأياد بن بكر بن وائل، وعبد القيس، وعبس، وذبيان، ومزينة، وجهينة، وطئ، وأسد، وخزيمة، وحمير، وحضرموت، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو المصطلق، وبنو عاد، وتميم، وقضاعة، وقبائل وشعوب كثيرة، وإليكم تفصيل بعضها فيما يلي.
بنو عبس بطن كبير من غطفان، كان لهم شأن في الغطفانين، يملك قوة سياسية وحربية، يسكن بين مكة والمدينة. ومنهم الصحابي الجليل نعيم ابن مسعود الأشجعي رضي اللّٰه عنه، كان عاملا يجمع الصدقات في بني عبس بن بغيض. ومنهم كان خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة. وقد زعم بعضهم أنه كان نبيًا. 30 وقد رويت أخبار في خالد بن سنان وابنته التي دخلت على رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم وقوله صلى اللّٰه عليه وسلم لها: (( أنت بنت أخي نبي ضيعه قومه )). 31
كان لبني عبد القيس قبيلة عظيمة تقع على ساحل شرقي جزيرة العرب، بالقرب من ثغور فارس، كان فيهم كثير من الموحدين والحنفاء الذين اعتزلوا عبادة الأوثان والتمسوا أهل الملل السماوية وانحرفوا إلى الحنيفية. وكان من عبد القيس من شن أرباب بن رئاب، وكان على دين عيسى عليه السلام. 32
كانت منازل حمير في الشريط المخصب المخضر الممتد في جنوب الجزيرة العربية من اليمن إلى هجر. ومن حنفائهم كان أسعد أبو كرب الحميري، وهو وإن كان من قاطني جنوب العرب إلا أن له علاقة قوية ببيت اللّٰه الحرام، وكان أسعد آمن بالنبي صلى اللّٰه عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وهو أول من كسا البيت الأنطاع والبرود. 33
تشير الآثار التاريخية التي تعود إلى القرنين، الرابع والخامس، الميلاديين، إلى أن أهل اليمن كانوا على دين حنيف، يؤمنون بالرحمن ورب السماوات والأرض وأنه هو الإله الوحيد، وقد اكتشف نقش يعود إلى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة للميلاد، في أنقاض معبد، مكتوب عليه "أن هذا المعبد بني لعبادة الإله الدوسموي"، أي لعبادة إله أو رب السموات. وقد اكتشف لوح يعود تاريخه إلى سنة خمس وستين وأربعمائة للميلاد، مكتوب عليه: "بنصر وردًا أثمن بعل سمين وأرضين وابنصرين وبعون إلا إله رب السماء والأرض" ما يدل على عقيدة التوحيد بكل صراحة. واكتشف لوح آخر في قبر من ذلك العهد، مكتوب عليه: "بخيل رحمنن" أي: أستعين بحول الرحمن. ولوح ينتمي إلى عام 512 الميلادي، اكتشف في شمال الجزيرة العربية على ساحل الفرات وقنسرين في منطقة زبد، مكتوب عليه: "بسم الإله، لا عز إلا له، ولا شكر إلا له". كل هذه الألواح والشواهد الأثرية تدل على أن عقائد الدين الحنيف لم تندرس كليا قبل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم. 34
قال ابن هشام: إن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم يريد الإسلام، فقال يمدح رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم:
وآليت لا آوي لها من كلالة
ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم
تراحي وتلقي من فواضله ندى
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
ولا تعبد الأوثان واللّٰه فاعبدا
وهي قصيدة طويلة، فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم ليسلم. فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: واللّٰه إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب. فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر. فقال الأعشى: أما هذه فواللّٰه إن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات في عامه ذلك، ولم يعد إلى رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم. 35
بنو عامر بن صعصعة كان بطنًا كبير من قبيلة هوازن، كانت له علاقة أكيدة بمكة المكرمة والطائف، كانت قبيلة عظيمة من حيث العدة والعدد، كانت منتشرة في كل نواحي العمالة الوهرانية، ثم نزحوا الى مضاربهم الحالية، واستوطنوها. 36 وقد كان من بني عامر الشاعر الجاهلي الجليل قيس بن عبد اللّٰه بن عدس بن ربيعة الجعدي العامري، اشتهر في الجاهلية. وسمي النابغة؛ لأنه أقام ثلاثين سنة لا يقوم الشعر ثم نبغ فقاله. وكان ممن هجر الأوثان، ونهى عن الخمر، قبل ظهور الإسلام. ووفد على النبي صلى اللّٰه عليه فأسلم، وأدرك صفين، فشهدها مع علي رضي اللّٰه عنه، ثم سكن الكوفة، فسيره معاوية رضي اللّٰه عنه إلى أصبهان مع أحد ولاتها، فمات فيها وقد كف بصره، وجاوز المئة. 37
لبيد بن ربيعة ثاني أجل الشعراء الحنفاء أيضًا كان من بني عامر بن صعصعة ولو لم يكثر ذكره في الذين تحنفوا في الجاهلية، وكان ينتمي إلى بطن آخر من بني عامر وهو بنو كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وفي أشعاره كلمات تدل على تحنفه وتشير إلى إيمانه اللّٰه الواحد والبعث بعد الموت وغير ذلك، ومن أبياته أنه قال:
أحمد اللّٰه فلا ند له
بيديه الخير ما شاء فعل 38
كانت منازل بني سليم في منطقة بين مكة ويثرب، وهي من أهم بطون قيس عيلان، كانوا حلفاء لمكة ويثرب كلتيهما، وأحد بطونهم كان من حلفاء بني هاشم أيضًا. عرفوا بالشجاعة والفروسية، والسياسة والحرب. وكان فيهم ناس مالوا إلى الحنيفية والإيمان بوحدانية اللّٰه وربوبيته، فمنهم كان عمرو بن عبسة السلمي، يكنى أبا نجيح، ويقال أبو شعيب، وينسبونه عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد بن غاضرة بن عتاب بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، أسلم قديما في أول الإسلام. روينا عنه أنه قال: ألقي في روعي أن عبادة الأوثان باطل، فسمعني رجل وأنا أتكلم بذلك. فقال: يا عمرو، إن بمكة رجلا يقول كما تقول. قال: فأقبلت إلى مكة أول ما بعث رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم، وهو مستخف. فقيل لي: إنك لا تقدر عليه إلا بالليل حين يطوف، فنمت بين يدي الكعبة، فما شعرت إلا بصوته بهلل، فخرجت إليه فقلت: من أنت؟ فقال: أنا نبي اللّٰه. فقلت: وما نبي اللّٰه؟ فقال: رسول اللّٰه. فقلت: بم أرسلك؟ قال: أن تعبد اللّٰه وحده، لا تشرك به شيئا، وتكسر الأوثان، وتحقن الدماء. قلت: ومن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، يعني أبا بكر وبلالا. فقلت: أبسط يدك أبايعك، فبايعته على الإسلام. قال: فلقد رأيتني وأنا ربع الإسلام. 39 وذكرت أحواله بتفصيل في الطبقات. 40
كنانة كانت من حلفاء وأقرباء قريش، كانت قبيلة كبيرة لها عدة فروع، منها غفار وأسلم المجاورتان لمكة، ومن غفار كان أبوذر الغفاري رضي اللّٰه تعالى عنه، الصحابي الجليل، واسمه جندب بن جنادة بن كعيب، كان قد اعتزل الأوثان قبل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بثلاث سنوات. وكان يصلى طول الليل حيثما توجه إلى أن أصبح، ثم جاء معه أنيس إلى مكة لحاجة مسته، فأخبره أنيس بأن في مكة رجلا يقول ما تقول، ويقول أنه رسول اللّٰه، فجاء وأسلم في أول ما بعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم.
عمير بن جندب الجهني، كان هذا الرجل ممن يوحد اللّٰه تعالى في العصر الجاهلي، ولا يشرك بربه أحدًا. مات عمير بن جندب من جهينة قبيل الإسلام. 41
عدي بن زيد العبادي، كان عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب من بني امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم. وكان أيوب هذا أول من سمي من العرب أيوب، وكان عدي شاعرا فصيحا من شعراء الجاهلية، وكان نصرانيا وكذلك أبوه وأمه وأهله، فقد كانوا على دين المسيح أيضًا. 42
سيف بن ذي يزن، لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى اللّٰه عليه وسلم بسنين أتى وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته ومدحه وذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، فأتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم في ناس من أشراف قريش. وكان مما قال لعبد المطلب: يا عبد المطلب، إني مفوض إليك من سر علمي، ما لو كان غيرك لم أبح له، ولكن رأيتك معدنه، وأطلعتك عليه، فليكن عندك مطويا حتى يأذن اللّٰه فيه، فإن اللّٰه بالغ فيه أمره، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيره، خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة، ولك خاصة. قال عبد المطلب: أيها الملك، فمثلك من سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر، زمرا بعد زمر. قال: إذا ولد بتهامة، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة. 43 كأنه كان عالما بالكتب السماوية.
عامر بن الظرب العدواني، كان من حكماء العرب وخطبائهم، وله وصية طويلة يقول في آخرها: إني ما رأيت شيئًا قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء. ثم قال: إني أرى أمورا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود اللاشيء شيئا، ولذلك خلقت السموات والأرض فتولوا عنه ذاهبين، وقال: ويل إنها نصيحة، لو كان من يقبلها. 44 عدّه المؤرخون في حنفاء العرب.
عبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، كان يؤمن بالخالق عز وجل، وبخلق آدم عليه السلام. 45
زهير بن أبي سلمي كان يمر بالعضاء، وقد أورقت بعد يبس فيقول: لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم. 46 يقول ابن قتيبة: كان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ومن معلقته ما يحمل على القول أنه كان مؤمنا باللّٰه وبالبعث والحساب بدليل قوله:
فلا تكتمن اللّٰه ما في أنفسكم
ليخفي ومهما يكتم اللّٰه يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم 47
عبد اللّٰه بن تغلب بن وبرة بن قضاعة كان يؤمن باللّٰه واليوم الآخر، كان من حكماء العرب، وسميت أفكاره دينا حنيفا مثل الذين عاصروه من الحنفاء المتوحدون، وتترشح أفكاره من كلامه وكلماته.
عبيد بن الأبرص الأسدي الخزيمي كان من فحول شعراء الجاهلية، قديم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، جعله ابن سلّام في الطبقة الرابعة، وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة. 48 قتله النعمان بن المنذر يوم بؤسه. ويقال: إنه لقيه يومئذ وله أكثر من ثلاثمائة سنة. 49 ومن أبياته التي تشير إلى انحرافه عن الباطل إلى الحق، قال:
وليفنين هذا وذاك كلاهما
إلا الإله ووجه المعبود 50
كان العرب في الأصل على دين إبراهيم عليه السلام، الدين الحنيف، أما الشرك أو الوثنية فقد تدخلت على العرب من الخارج، جاء بها عمرو بن لحي، ودعا الناس إليها، فقبلوا دعوته وأكبوا على الأوثان، وانتشرت عبادته في الأنحاء والأطراف، حتى كثر الوثنيون، وقل الحنفاء الموحدون الذين كانوا على دين الفطرة، ولم يبق منهم إلا رجال معدودون يتبعون دين إبراهيم عليه السلام قبيل مبعث النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، وكان من شعائرهم، وبها يتميزون من المشركين، الختان وحج بيت اللّٰه والغسل من الجنابة والاعتزال عن عبادة الأوثان. ولهم دور بارز في حماية تراث آبائهم وعقائدهم الدينية، كما لعبوا دورا هاما في نشر الحنيفية وبعث روحها في الجيل القاد، كأنهم طليعة الجيش الذين قبلوا الدين المحمدي الأبدي السرمدي على صاحبه آلاف التحيات والصلوات، وكانوا طائفة دينية، جعلت أفكارهم وعقائدهم كل العالم ينتظرون مبعث خاتم الأنبياء صلى اللّٰه عليه وسلم، والنفوس الزكية الذين انطبعوا على تعاليمهم وأفكارهم، توجهوا إلى الإسلام وتصديق النبي صلى اللّٰه عليه وسلم عندما ضجت جزيرة العرب بصدى مبعثه صلى اللّٰه عليه وسلم.