العرب جيل من الناس لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، والفصاحة في المنطق، والذلاقة في اللسان، ولذلك سموا بهذا الاسم، 1 فنلقى الضوء في هذا الفصل على سبب تسمية كلمة العرب، ومعناها اللغوي، والفروق المعنوية بين العرب والأعراب مع ما ذكر في القرآن المبين من الفرق بين الفريقين شرحا وبسطا.
اختلفت أقوال علماء اللغة والأنساب والجغرافية والتاريخ في سبب تسمية أهل الجزيرة باسم "العرب"، فقال علماء الجغرافية: إن العرب سموا عربا لسكنهم قديماً في المكان المسمى"العرب". ورأى أصحاب الأنساب أنهم سموا العرب لنسبتهم إلى يعرب بن قحطان؛ لأنه جد العرب وأول من نطق بالعربية، كما ذكر الطيب النجار:"وسموا عربًا نسبةً إلى: يعرب بن قحطان جد العرب العاربة، فإنه أول من نطق باللغة العربية الفصحى، وأخذها عنه أهل اليمن". 2
وزعم علماء اللغة أنهم سموا العرب لنطق جدهم يعرب بن قحطان حيث ذكر الهروي في التهذيب:" واختلف الناس في "العرب" أنهم لم سموا عربا، فقال بعضهم: أول من أنطق اللّٰه لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان، وهو أبو اليمن، وهم "العرب العاربة". 3 وقد ذكر المؤرخون بأنهم لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، والفصاحة في المنطق، والذلاقة في اللسان، ولذلك سموا بهذا الاسم. 4 ومن العلماء الباحثين من ذهب إلى أن أصل كلمة العرب كان "عربة"، وهي كلمة سامية الأصل تطلق على الصحاري القاحلة والفلوات النائية، والواقع أن معظم الجزيرة العربية لما كان محتويا على صحاري فارغة وبراري رملية فسميت مجموعتها بالجزيرة العربية في العرف العام.
أصل كلمة العرب عرَبة بالتحريك، وهي في الأصل اسم لبلاد العرب، وجمعها عربات، وإياها عنى الشاعر بقوله:
ورجت باحة العربات رجا
ترقرق في مناكبها الدماء 5
والعرب لغةً تطلق على الصحاري والقفار، والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا كلأ، وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب(Arabian peninsula)، كما أطلق على قوم قطنوا تلك الأرض، واتخذوها موطناً لهم. 6
مادة كلمة العرب هي "ع ر ب"، وهم أمة من الناس سامية الأصل، كان منشأها شبه جزيرة العرب، وجمعها أعرب، والنسب إليه عربي، يقال: لسان عربي، ولغة عربية، 7 والعرب العاربة: هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه فأكد به، كقولك ليل لائل، تقول: عرب عاربة وعرباء: صرحاء، وأما متعربة ومستعربة: فهم دخلاء، ليسوا بخلص، والعربي منسوب إلى العرب، وإن لم يكن بدويا، والأعرابي: البدوي، وهم الأعراب، والأعاريب: جمع الأعراب، فعلم أن العرب لاتجمع على الأعراب، 8 وذلك فإن الأعراب لا واحد له، ويجمع: أعاريب. 9 وقد بسط في تحقيقه اللغوي صاحب المصباح المنير فقال:" العرب اسم مؤنث، ولهذا يوصف بالمؤنث، فيقال: العرب العاربة والعرب العرباء، وهم خلاف العجم ورجل عربي، ثابت النسب في العرب وإن كان غير فصيح، وأعرب بالألف إذا كان فصيحا وإن لم يكن من العرب، وأعربت الشيء وأعربت عنه، وعربته بالتثقيل، وعربت عنه، كلها بمعنى التبيين والإيضاح". 10
وورد في المعجم الوسيط شرح مادة "عرب" على النحو التالي:"(عرب) عروبا وعروبة وعرابة وعروبية فصح ویقال: عرب لِسَانه (أعرب) فلان کان فصيحا في الْعربيّة وإِن لم يكن من الْعَرَب، والکلام بَينه وأتى به وفْق قواعد النَّحْو وطبق علیه قواعد النحو وبمراده أفْصح به وَلم يوارب وعن حاجته أبان". 11
وكذا يقال: رجل معرب إذا كان فصيحا وإن كان عجمي النسب، 12كما أن العرب إذا اعترفت لرجل بالفصاحة والبلاغة في المنطق سمته عربا، وعبرت عن تكلمه بأعربَ، وقد دل عليه ما ورد في المعجم الوسيط:"(أعرب) فلان كان فصيحا في العربية وإن لم يكن من العرب، والكلام بينه وأتى به وفق قواعد النحو وطبق عليه قواعد النحو وبمراده أفصح به". 13
ومن ثم يطلق" العربي" على كل من يتكلم بالعربية الفصحى كلامًا فصيحًا وبليغًا، كما أوضح صاحب المنجد كلمة" العرب" ومعانيها مع مشتقاتها، فقال: عَرُبَ عروبةً وعروبيةً وعرابةً وعرباً وعروباً أي: تكلم بالعربية ولم يلحن، كان عربيًا فصيحًا، وعَرِبَ عرباً الرجل أي: فصح بعد لكنة في لسانه، وعرَّب المنطق أي: هذبه من اللحن، ورجل عربان فصيح اللسان، ورجل عرباني اللسان فصيح. 14
وذكر بعض أهل اللغة أن أصل كلمة العرب الإعراب، والإعراب بمعنى النطق والإفصاح عما في القلب، ولما كان العرب معروفين بفصاحة اللغة والبيان سموا أنفسهم عربا، وسموا غيرهم عجما. 15
والأصل أن جميع اللغات السامية تستعمل كلمة "العربة" بمعنى الصحراء والبادية، ففي اللغة العبرية تستعمل عربا بمعنى الصحراء والساحة، واللغة العربية كذلك لاتزال فيها بقية من هذا المعنى القديم، فالعرابة معناها البداوة، والأعراب بمعنى البدو الساكنين في الصحارى مستعمل إلى الآن، 16 وهناك آثار تدل على أن أول ما استعملت كلمة العرب كان قبل الميلاد بألف سنة في عهد سليمان عليه السلام، وبعد ذلك عم استعمالها في التواريخ العبرية واليونانية والرومية، 17 وقيل: إن العرب تطلق على أولاد إسماعيل عليه السلام وأحفاده، وتجمع بالأعراب، كما ذهب إليه الراغب الأصبهاني فقال:"العرب: ولد إسماعيل، والأعراب جمعه في الأصل، وصار ذلك اسما لسكان البادية". 18
ونطلق لفظة "العرب" اليوم على سكان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة والتلفزيون بلغة واحدة، نقول لها: لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم، ونحن إذ نطلق لفظة "عرب" و"العرب" على سكان البلاد العربية؛ فإنما نطلقها إطلاقا عاما على البدو وعلى الحضر، لانفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. 19
تشمل الاشتقاقات والمعاني الأخرى لكلمة العرب، التكلم باللغة العربية، والتثقف بثقافة العرب والتشبه معهم أو مع أجدادهم في الصفات والعادات والإقامة بالبادية وغير ذلك كما أشير إليها في المعجم الوسيط:"(تعرب) تشبه بالعرب وأقام بالبادية وصار أعرابيا وكان يقال: تعرب فلان بعد الهجرة". 20 كما تتضح المشتقات الأخرى من كلام صاحب المنجد حيث قال:"العرب والمتعربة والمستعربة". 21
وقد ذكرت مشتقات كلمة العرب في المعجم الوسيط بكل بسط وتفصيل، وهي:
وذكر أبو منصور الأزهري بعضا منها:"عرب: قال ابن المظفّر: العَرَب العاربة: الصریح منهم، قال: والأعاريب: جماعة الأعراب". 23 ويذكر صاحب مختار الصحاح:" (العرب) جيل من الناس والنسبة إليهم (عربي) وهم أهل الأمصار". 24 كما ذكر معنى الأعرابي في المنجد:" الأعراب سكان البادية، والواحد منهم أعرابي، والأعرابي نسبة إلى الأعراب، الجاهل من العرب، والأعرابية: حالة الأعرابي كالبداوة". 25
فاتضحت من المشتقات المذكورة أن كلمة العرب ذات المعاني الكثيرة العامة، ويدل ذلك على أن كلمة العرب تحوي في ذاتها عموم المعنى أكثر وأوسع بالنسبة إلى ألفاظ أخرى، ولما كانت كلمة العرب تدل على معاني ومفاهيم متعددة سمت العرب أنفسهم بالعرب، إشعاراً بأنهم أعلى وأسمى من أهل اللغات الأخرى بسبب السعة في لغتهم العربية، فنظراً إلى ما سبقت من المعاني والمفاهيم المختلفة يمكننا أن نلخص معنى العرب بأنهم "كانوا أفصح اللسان وأبلغ البيان، المقيمين في صحاري ووديان شبه الجزيرة العربية شمالا وجنوبا".
لما كانت الجزيرة العربية تحتوي على الأمصار المتعددة والقرى المختلفة فرآى بعض أهل اللغة أن كلتا الكلمتين- العرب والأعراب- مترادفتان ومتحدتان في المعنى، لكن البعض قد فرّق بين معانيهما حيث خصّص إطلاق كلمة العرب على أهل الأمصار فقط وإن أطلقت على أهل المصر وأهل البادية إطلاقا عرفيا كما أطلق على أهل البادية الأعراب في اللغة. وإلى هذا ذهب صاحب الصحاح حيث قال:"العرب: جيل من الناس، والنسبة إليهم عَرَبيّ بيِّن العروبة، وهم أهل الأمصار، والأعراب منهم سُكّانُ البادية خاصَّة". 26 ويقول ابن منظور الإفريقي في من نُسب إلى العرب:"رجل عربي إذا كان نسبه في العرب ثابتاً وإن لم يكن فصيحا وجمعه العرب كما يقال: رجل مجوسي ويهودي، والجمع بحذف ياء النسبة كاليهود والمجوس". 27
وقد نقل العلامة الآلوسي ما ذهب إليه المفسرون من الفرق بين العرب والأعراب فقال: قال أهل التفسير: الأعراب صيغة جمع، وليست بجمع للعرب على ما روي عن سيبويه؛ لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد، فإن العرب هذا الجيل المعروف مطلقا، والأعراب سكان البادية منهم، ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل: أعرابي، وقال فريق منهم: العرب سكان المدن والقرى، والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم، فعلى هذا القول هما متباينان، ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما، فيقال للواحد: عربي وأعرابي، وللجماعة: عرب وأعراب وكذا أعاريب، والمؤرخون على القول بأن الأعراب قسم من العرب. 28
ويرى ذلك صاحب المنجد أيضاً 29 كما ذُكر في المعجم الوسيط:"(الأعراب) من العرب سكان البادية خاصة يتتبعون مساقط الغيث ومنابت الكلأ، الواحد أعرابي". 30 وأورد الجوهري نفس المعنى في الصحاح، 31 وزين الدين الرازي في مختار الصحاح. 32 ونقل الفرق صاحب نهاية الأرب عن الجوهري بين كلمتي العرب والأعراب، فقال:" العرب جيل من الناس وهم أهل الامصار، والأعراب سكان البادية، والنسبة إلى العرب عربي وإلى الأعراب أعرابي، والذي عليه العرف العام إطلاق لفظة العرب مشتقة من الأعراب، وهو البيان؛ أخذاً من قولهم: أعرب الرجل عن حاجته إذا أبان". 33
فإذا أطلق العربي فالمراد به رجل من العرب فالعربي واحد العرب، وهم الذين استوطنوا المدن والقرى العربية، 34 وإذا أطلقت العربية فلا تدل إلا على اللغة العربية كما صرح به صاحب القاموس الفريد، 35 وأما من سكن البادية أو جاور أهلها وظعن بظعنهم فهم أعراب، كما صرح عليه ابن منظور الإفريقي بقوله: "فمن نزل البادية، أوجاور البادين وظعن بظعنهم، وانتوى بانتوائهم: فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب: فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء ". 36
فالأعراب كانوا يعيشون عيشًا قرويًا بدويًا، وخلافهم العرب الذين يعيشون في الحضارة والتمدن والثقافة، فقد اتضح مما ذكرنا من البسط والتفصيل أن الأعراب هم أهل البادية.
وردت كلمة "الأعراب" في القرآن الكريم بمعناها الأصلي حيث قال اللّٰه تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 37
وكذلك وصف اللّٰه تبارك وتعالى أحوال الأعراب، وذكر أقسامهم الثلاثة حسب اعتقادهم الديني وإيمانهم، وأخبر أن منهم كفارًا أشداء، ومنهم السعداء الذين آمنوا باللّٰه ورسوله، ومنهم من اتصف بنفاق خالص، فقال تعال:
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 38
فجاء معنى الأعراب في الآيتين الكريمتين على أصل وضعه، وهو أهل البادية وسكان الصحاري.
ملخص ما أوردنا من التعريفات والأقوال آنفًا هو أن العرب والأعراب هم السكان الحقيقيون لشبه الجزيرة العربية، تربطهم لغتهم وعروبتهم كما يربطهم الأصل والجنس، سواء كانت إقامتهم في مدينة من المدن أو قرية من القرى؛ لكن ثمة غموض لابد من كشفه وهو أن العرب من هم؟- من حيث القوم- حتى نعيّن حسبهم ونسبهم، ونعرف كيفية رباط القبائل بعضها ببعض، وذلك يدعم لفهم مشتركاتهم ومختلفاتهم وكيفية عصبية عروبتهم بأكثر سهولة ويسر، ففي هذا الإطار ينبغي أن نوضح مصطلحين لفهم المراد من البداوة والحضارة والفرق بينهما أطوارا وأدوارا، وهما:
ولابد أن نعرف الوبر والمدر لغةً واصطلاحاً؛ لأن معرفتهما توصلنا إلى فهم الطبائع العربية بالجملة كما توصلنا إلى معرفة الأوصاف والعادات والأطوار الحضارية والقروية المختلفة المتفاوتة.
الوبر للبعير كالصوف للغنم، وهو في الأصل مصدر من باب تعب، وبعير وبر بالكسر كثير الوبر، وناقة وبرة، والجمع أوبار مثل سبب وأسباب. 39 فسره العلامة الفيروزآبادي بقوله:" الوبر محركة: صوف الإبل والأرانب ونحوها". 40 وقد ذكر اللغويون معنى أهل الوبر كما ذكروا الوبر لغةً، فذُكر في معجم اللغة العربية المعاصرة:" أهل الوبر: أهل البادية أو البدو؛ لأنهم يتخذون بيوتهم من الوبر". 41 وقيل في معجم لغة الفقهاء:" أهل الوبر: أهل البوادي الذين يسكنون الخيام". 42
فالحاصل أن الوبر يقال في اللغة للصوف الذي يكون للإبل والأرنب والحيوانات التي على جلدها أشعار كثيرة كثيفة، ويمكننا أن نقول بعد معرفة معنى الوبر: إن أهل الوبر هم أهل البادية الذين يعيشون في خيام مصنوعة من الصوف والجلود، لذلك تدور حياتهم في الأغلب على الأنعام، فملبسهم صوفها وفروتها وأشعارها، ومطعمهم ومشربهم لحومها وحليبها، ومتجرهم الأنعام وأشعارها وأوبارها، وبينهم وبين التجارة والزراعة بون شاسع وبُعد واسع.
أما المدر فهو جمع مدرة، وهي البنية، 43 والعرب تسمي القرية مدرة، ومدر: قرية باليمن، ومنه فلان المدري، والمدرية: رماح كانت تركب فيها القرون المحددة مكان الأسنة. 44 يقول أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي في هذا الصدد:" وقال شمر: والعرب تسمي القرية المبنية بالطين واللبن المدرة، وكذلك المدينة الضخمة يقال لها المدرة". 45 وقال أبو طاهر محمد بن یعقوب الفیروزآبادي:" المَدَر محركة: قطع الطين اليابس، أو العلك الذي لا رمل فيه، واحدته: بهاء، والمدن، والحضر، وضخم البطن...ومدرتك: بلدتك، أو قريتك، وبنو مدراء: أهل الحضر". 46 وذكر أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي معنى آخر لـ"مدر"حيث قال:" والمدر: تطيينك وجه الحوض بالطين؛ لئلا ينشف الماء". 47 وقد وُصف أهل المدر في المعجم الوسيط على النحو التالي:" وأهل المدر: سكان البيوت المبنية خلاف البدو سكان الخيام". 48 وفي معجم لغة الفقهاء:" أهل المدر: سكان المدن والقرى". 49
وقد ورد ذكر المدر والوبر في الحديث النبوي -على صاحبه ألف تحيات وتسليمات-، قد أورده ابن منظور الإفريقي في لسان العرب:" وفي الحديث: أحب إلي من أهل الوبر والمدر" أي: أهل البوادي والمدن والقرى، وهو من وبر الإبل؛ لأن بيوتهم يتخذونها منه، والمدر جمع مدرة، وهي البنية". 50
فنجد مادة مشتركة بين جميع هذه المعاني التي سبقت آنفًا، ألا وهو تبليط الحائط بالطين والآجر، ولما علمنا المادة الاشتراكية فلا يصعب فهم ما أراد العرب بأهل المدر على أنهم المقيمون في الدور المبنية المبلطة بالآجر والأحجار، والقصور الشامخة المبلطة بالرخام الأبيض، الذين حرفتهم في التجارة والزراعة، وهم يرجحون الاستقرار والبقاء في مكان واحد خلاف أهل الوبر فإنهم ينتقلون من مكان إلى مكان.
والدراسة السابقة تكشف القناع عن هذه الحقيقة على أن العرب وإن كانوا في الأصل ساميين؛ لكن الأمر الذي يرونه مهتما بالشأن ويفضلونه على الحسب والنسب هو لغتهم العربية وفصاحتها وبلاغتها والقدرة الفائقة على طلاقة اللسان وطلاوة الكلام بها، ولا شك في أن الإقامة في شبة الجزيرة العربية إضافةً إلى التكلم بلغتهم الفصحى وصف مرغوب لمن يعزو نفسه إلى العرب كما أن من الأوصاف المرغوبة التثقف بثقافتهم وحضارتهم، والتصبغ بصبغة عاداتهم وأطوارهم وآدابهم والاتصاف بصفاتهم الحميدة والخصال الجميلة والتكافئ في الحسب والنسب؛ لكن مع ذلك لو لم يكن الرجل من العرب لأدخلته في زمرتهم إقامته بقطعة من أرضهم مع إفصاحه ما في قلبه من أحاسيس ومشاعر باللغة العربية الفصحي، وأما صفاته الأخرى ومن جملتها العجمة فلم تعتني بها العرب ولا تلتفت إليها لفتة، فإنهم كانوا يفاخرون بفصاحتهم وخاصةً بنشر أفكارهم من خلال أشعارهم، لذلك كانوا يطلقون على غير عربي" عجميًا"، وهذه صفة لم تتصف بها إلا العرب، فلم تتفوق أية لغة على لغتهم في الفصاحة والبلاغة، ولا أهل لسان تفوقوا عليهم في القدرة الكلامية والطلاقة اللسانية مع المهارة الشعرية، وبسبب هذه المفاخرة والمنافسة لم يركن أحد من العرب في قديم الزمان وسالف الأيام إلى لغة ولا إلى ثقافة غير عربية، ثم منح اللّٰه عز وجل لغتهم الاستمرار والدوام بعد فجر الإسلام بالقرآن والرسول صلى اللّٰه عليه وسلم، وما زالت العرب بعد أن اعتنقوا الإسلام بكل رحابة وهشاشة أصحاب الشرف والكرامة مع ميزتهم الوحيدة الفريدة في صورة لغتهم وحضارتهم العربية.