Encyclopedia of Muhammad

Languages

اردو English

حقيقة التاريخ

ما زال الإنسان يتمتع بدراسة التاريخ ويستفيد بها منذ قديم الزمان وسالف الأيام كما أنها تعين الفكر البشري على إرشاده إلى طريق مستقيم وسبيل قويم، وأرباب الفكر العميق والنظر الدقيق ينظرون إلى الوقائع التاريخية بمنظار عقلي خلاب رغم أنهم يستخرجون منها ما وقعت في الحضارات القديمة من اختلافات وانقلابات؛ ليستدلوا بها على ما تقع في العالم الحاضر من الحوادث والكوارث، وإضافة إلى ذلك فإن علم التاريخ مهم جدا لتخطيط الخطط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ووضع الدساتير الحكومية والإدارية في ضوء العلم بتاريخ الماضي.

ومعلوم أن دراسة التاريخ تكشف القناع عن ماهية الأحزاب والفئات التي كانت في العصور الماضية سياسية وفنية واجتماعية وعلمية وتربوية وعسكرية وتنبئ عن تطورها وتقدمها في مجالاتها كما نطلع من خلال دراسته على شتى جوانب العصور الغابرة الأخرى، فنتحلى بعد العثور عليها بجوهر علمي نحتاج إليه في بناء حياتنا الفكرية والأيديولوجية والبدنية في العصر الراهن بما نقترب من الوقائع والحقائق التي حدثت في القرون الماضية حتى نستدل بعللها على أن الأوضاع وأسبابها المؤثرة كيف تغيرت منذ زمن قديم إلى يومنا هذا؟ وإلى جانب ذلك نعثر على رجال عباقرة -وهم ينابيع التغيير- أثناء الوقائع والأحداث الماضية.

مجال التاريخ

إن التاريخ له علاقة قوية بالحياة الاجتماعية وأسلوب الارتباطات بين الأفراد والفئات ونمطها نحو الميل الجنسي والقيادة والأبنية الأساسية والتنسيق العملي والاتصالي وغير ذلك، وهو يبحث عن الأوضاع والكيفيات والأمور التي تؤثر في طبع أية حضارة كالوحشية والبربرية، شن الغارات وسفك الدماء، العشرة الجماعية والمشاعر الطائفية، وما إلى ذلك من مناهج وأساليب يتفوق بها مجتمع بشري على آخر، ومعلوم أن التاريخ عبارة عن قصص الملوك وسلطاتهم وغطرساتهم وعائلاتهم والوظائف وما كانت لديهم من وظائف ورتب، وإضافة إلى ذلك إنه يحيط بشتى أنواع الحرف والمحن المربحة ووسائل التجارة كما يضيف إلى العلم والوعي والفنون والمهارات التي يتزين بها الإنسان جهدا ونشاطا ويتنافس فيها، ومن ناحية أخرى إن التاريخ له أثر كبير في الاطلاع على المنظمات الإدارية والاجتماعية قديما كما يؤثر أثرا بالغا في تقاليد حضارية ودساتير ثقافية تتوالد في العالم.

أثر الحضارات القديمة في التطور البشري

إن العلم بأقدم وأهم الحضارات العالمية يقرّبنا إلى معرفة التاريخ البشري وفهمه على النطاق العالمي، ولا يتيسر ذلك إلا بالتفحص عن كل أثرة تاريخية من الاطلاع على الكتابات المرسومة في الكهوف القديمة حتى إلى الانكشافات الحديثة، فمصطلح الحضارة وإن لم يكن إشارة ولا أمارة على مجموعة خاصة متكونة من أجزاء شيء واحد واضح إلا أنه في الأغلب يطلق على ثقافة المجمتعات البشرية وتطور الصنعة والحرفة فيها على مستوى العالم، ولو أمعنا النظر في هذا الحد لعرفنا أنه موضوع غير واضح؛ فإنه مبني على مقدمات فرضية لاتقبلها العلوم الطبيعية من تغيرات وانقلابات وقعت طوال تاريخ المجتمعات البشرية، فلايحصر التاريخ على المآثر البديعية والتكنيكية والفنية حصرا لازميا، ولا يمثل نيابة عن مرحلة تطوير الحضارة الخاصة، بل مفهومه أشمل وأوسع، فهو عبارة عن المواقف الفكرية والنظرية، المآثر السياسية والانتصارات الحكومية، الكثرة العيشية والوفرة الترفيهية، القيم الأخلاقية والاجتماعية، والاشتراكات العقلية في العمرانية.

ويحسب أن الحضارات العظيمة القديمة قد ساهمت في تطوير الأفكار والأيدلوجيات، ونتيجة لذلك اجتاز الإنسان جميع مراحل التطور والتقدم من بداية الأمر إلى يومنا هذا، من الوحشة إلى العصر الحديث؛ لكن ليست هذه الفكرة إلا استعظام الحضارات المتعينة واستصغار الباقية واستقلالها، وقد أدرك الباحثون والمحققون المثقفون سهم الحضارات الباقية في البلوغ إلى التطور المثقف.

العناصر الحضارية الأساسية

إن الحضارة -وفق ما ذهب إليه ول ديورانت (Will Durrant)- هو النظام الاجتماعي المطور لتكوينات ثقافية تشكلها عناصر أربعة أصلية أساسية:

الرخاء الاقتصادي، وتنظيم البنية السياسية، والقيم الأخلاقية، والعلم مع طلبه.

كما تضم إليها عناصر تالية:

  1. نشأة الحضارة وإحكامها
  2. أوضاع الحضارة
  3. العناصر الاقتصادية الحضارية
  4. العناصر السياسية الحضارية
  5. العناصر الأخلاقية الحضارية
  6. العناصر العقلية الحضارية
  7. تأسيس الحضارة قبل وجودها 1

وقد نظم جوردون جائلد (Gordon Childe) -وهو مؤرخ أمريكي من باحثي الحفريات- قائمة مشتملة على عشرة أوصاف تميز الحضارة المتمدنة عن المجتمعات الأخرى، وبلغت هذه القائمة إلى منتهاها بعد مراجعات عديدة، لكن فكرة جارلس ريدمين (Charles Redman) عالم الآثار القديمة تشكلها في شكل أجود وأجمل، وحسب ما صوره أن الأوصاف الأساسية التي تمثل دورا هاما في الحضارة وتطويرها وتقديمها هي التجمعات المدنية، والفنييون المستقلون (الذين لاعلاقة لهم بالزراعة)، جمع الحاصلات الزائدة، وتنظيم الحكومة على المستوى الدولي، وأما الأوصاف الثانوية فهي الأبنية الشعبية التذكارية، والعلاقات التجارية الوسيعة المتصلة، والاختراعات الفنية العالية التذكارية، والمواد المحررة، وتطوير العلوم الطبيعية المثقفة. 2

معيار الحضارة العالمية

نلفت أنظار قرائنا في هذه الأسطر إلى أن هذا الجدول السابق -بصرف النظر عن معايير الصحة ومقاييس الصدق- ينوط على نتائج مادية وثمرات مالية، وتغمض النظر عن التطور الفكري والخلقي إغماضا واضحا، فهل تكفي هذه الأمور والأجزاء التركيبية لتكوين الحضارة العالمية أو هي ميزان خاص بالحضارة الغربية والأوربية؟

فالحقيقة الواقعية أن المعيار الذي يشكل حضارة عالمية، يمكن أخذها من الوحي الإلهي الخالص المنقول إلينا بتوسط الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات والكتب السماوية، وهي الرسالة الإلهية التي لاتزال من سيدنا آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم رسالة وحيدة فريدة تمثل دورا هاما في تكوين الحضارة العالمية منذ بداية العالم، فأصل الحضارة العالمية ومطلعها أول البشر سيدنا آدم عليه السلام الذي تطور فكريا وأخلاقيا واجتماعيا بناءً على عقيدة التوحيد (Monothesim)، وأكثر ما أكد على كشف الحقيقة عن علم الموجودات وغرض خلق البشرية والحياة الخلقية والاجتماعية وخاصة على توحيد اللّٰه عز وجل وتصديق أبنيائه ورسله وتوقيرهم والمعتقدات الإيمانية الأخرى.

وهنا نلقي الضوء على الفكر الفاسد الكاسد وأصحابه حيث اجترؤا على القول بأن الأنبياء وسلسلتهم والمعتقدات الإيمانية أساطير دينية وحكايات عملاقية، وليس لهم على ذلك أي دليل عقلي مادي قاطع، كما أنهم يعتقدون حول الأنبياء بإنهم لم يساهموا في تطوير الفكر البشري مطلقا أو مساهمة يسيرة لا عبرة بها، بينما الحقيقة في نشأة هذه الفكرة الزائعة هي أن الكتب التاريخية الضخمة الباحثة عن الحضارات البشرية القديمة قد تحتوي على الوقائع والأمور الحضارية التافهة، وتحفظ مواد تاريخية توافق عناصر الحضارة الأساسية ومدعميها، وبناء على ذلك يغمضون أنظارهم عن الأمارات الدينية والعناصر الشخصية وعن معاييرها وضوابطها، وليست هي إلا النقص والخيانة في التاريخ.

أهمية الرسالة الإلهية

إن العلم البشري يحصل بطرق أربعة، الحدس، والطرق الرسمية المتداولة، والقياس العقلي، الخبرة والتجربة.

  • الحدس هو علم يحصل بإدراك أو إدراك شيء، ويحتمل الصدق. 3
  • الطرق الرسمية المتداولة، علم يتعلمه الإنسان من أبويه أو أساتذته أو كتبه مباشرة، ويدل ذلك على حقائق الأشياء وماهياتها.
  • القياس العقلي: هو علم حاصل بالاستدلال العقلي، 4 وهذا يعني أن تفترض المقدمة في البرهنة على قضية وإثباتها، أو إثبات مقدمة بمقدمة أخرى.
  • الخبرة والتجربة هو علم يحصل بتجربة حسية، وهذا الاستدلال التجربي يثبت إما بشواهد تترتب بعضها على بعض وإما بتغيير تكنيكي مثقف في أشياء حادثة وإما بمراجعة النماذج والخطط التحقيقية، وإما بجمع الأعداد تأويلا وتوضيحا.

إن علم الطبيعة والتكنالوجيا عبارة عما تعبر عنه حواسنا، فتحصل لنا العلم بالأشياء الخارجية بإحدى الخواس الخمسة، فالعالَم وكل ما نعرفه فيه هو في الحقيقة ما نراه بأم العينين ونلمسه باليدين ونسمعه بالأذنين ونشمه بالأنف ونذوقه باللسان، فما ندركه في الخارج مع وجود خارجي هو أثر الإشارات الكهربائية (Electrical Singals) الذي يرتبط بأذهاننا، فنقول على سبيل المثال: حمرة التفاحة وصلابة الخشب والألوان والعائلة وكل ما يملكه الإنسان ويتصرف فيه من البيت والتجارة والوظيفة حتى هذه الأوراق التي بين أيدينا، كلها تنبني على الإشارات الكهربائية المتكونة في أذهاننا، وبتعبير آخر: لايمكننا أن ندرك لون التفاحة الأصلي في الخارج، ولا نصل إلى صنع الخشب الحقيقي في الخارج، ولا نعرف الصور الحقيقية لآبائنا ولا لأقربائنا، فإن جميعهم موجودون في نفس الأمر لكونهم مما خلقه اللّٰه القادر المقتدر، لكننا لما كنا في هذا العالم مع حواسنا الخمسة فمشاهدتنا إياهم مباشرةً تنحصر على نقوش الأشياء وصورها المتكونة في أذهاننا.

ولمزيد من التوضيح نتفكر تفكرا عميقا في حواسنا الخمسة المدركة لكل ما تقع في الخارج إدراكا ذهنيا، فالبصر الإنساني يكشف النقاب بعد نظر غائر عن حقيقة أن البصر الإنساني يتواجد مرحلة إثر مرحلة، وتفصيل ذلك أن الضوء المشتمل على فوتونات (Photons) إذا وقع على شيء فينعكس ويدخل في حدقة العين حيث يقلب معكوسا على شبكية العين (Retina)، وهنا تتغير المحفزات البصرية (Visual Stimuli) بإشارات كهربائية (Electrical Signals)، وهذه الإشارات الكهربائية تبلغ إلى مركز الرؤية في الدماغ (Vision Center) بخلية عصبية (Neuron)، وبعد قطع العديد من المراحل تندمج هذه الإشارات الكهربائية كصورة معكوسة في حيطة الإدراك الإنساني.

والحقيقة المهمة التي تنكشف عنها أن كل ما نشاهده ونجربه في الواقع يتحقق في أذهاننا دون أن نعرف ماهياتها مع وجودها الخارجي حق المعرفة كما تؤكدها الاختراعات التكنيكية نحو النظام المشابه بالأصل الذي المسمى بالمحاكيات (Simulators)، أو يوثقها الرؤيا الإنساني، ومن المؤكد أن قوة الحواس الإنسانية محدودة لا تدرك إلا أشياء مادية، وإلى جانب ذلك يتضح من المشاهدات والتجارب أن حواسنا أحيانا تخطئ في إدراك الحقائق والماهيات أخطاء فاحشة، وذلك دليل على أن الحواس الإنسانية ليست وسيلة وثيقة أكيدة يحصل بها علم قطعي، وما يحصل به فهو علم محدود غير محتوم، وعلم سطحي غير قطعي.

أما القياس العقلي البشري فيحصل به علم في طرق ثلاثة، إما أن تستخرج به الحقائق من العلم الحاصل، وإما أن تستنبط به النتائج من الأسباب المستخرجة، وإما أن تستخرج به الحقائق اللازمة استخراجا عقليا كحقائق رياضية.

الحدس (Intuition) هو علم يحصل بإدراك أو خيال متحققا في المستقبل، وهو على ثلاثة أقسام.

الأول: الحدس النفسي: هو إدراك يحصل بقوة ذهنية.

الثاني: الحدس الشيطاني: هو إلقاء يلقى في القلب من جانب الجنات والشياطين.

الثالث: الحدس الإلهي (الإلهام): هو وحي يلقى في القلب من اللّٰه عز وجل، فإما أن يلقى من اللّٰه وحده لا شريك له مباشرةً، وإما أن يلقى بواسطة الملك، وقد ورد في التنزيل العزيز وحي أوحي إلى أم موسى عليه السلام، قال تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضيعيه5، مع ذلك لا يمكن أن يكون إلهام فرد واحد وسيلة لإصلاح العالم، فإنه في الحقيقة مشاهدة أو خبرة رجل لا تنفذ على آخر.

فالبحث السابق يشير إلى أن وسائل العلم الإنساني لا تخلو عن النقائص والعيوب التي تحتاج في حصول العلم إلى وسيلة مؤكدة، ومن ثم إن اللّٰه تعالى هدى الإنسان بالوحي الإلهي في كل عصر من العصور الماضية، فالوحي الإلهي يؤكد الاستدلالات المنطقية والبحوث العقلية والمواقف التحليلية بينما العقليات والعلاقات اللامنطقية بين العلة والمعلول تدعم العبادة الوثنية والعبودية الإنسانية الجسمانية والفكرية والطبقات السياسية والدينية.

لابد لتكوين الثقافة الإنسانية كحضارة فطرية عالمية أن يشكلها الوحي الإلهي، لكن مع الأسف الشديد أن الناس حرّفوا في وسائل الرسالة الإلهية القديمة (الكتب والصحف السماوية) وموّهوها حرصا على المال والثروة، طلبا للرئاسة والقيادة، حصولا على القوة والقدرة، فجميع الشكوك والشبهات والاعتراضات والإيرادات التي نشأت في الأذهان الركيكة والعقول الضعيفة منذ زمن قديم وارتكزت فيها دون أن أجيب عنها بإجابة قوية تدفعها حتى ردها اللّٰه ردا عمليا وعلميا حيث بعث رسوله المصطفى صلى اللّٰه عليه وسلم فأوضحها بأقواله وأفعاله صلى اللّٰه عليه وسلم، رغم ذلك قد قدم الكتاب والسنة نموذجا مثاليا عالميا للثقافة البشرية وقيما أخلاقية للمجتمع البشري العام.

النظريات (المواقف) عن بداية العالم

قد وقعت بين العلماء الباحثين والمحققين المثقفين في خلق العالم وبدايته نقاشات ساخنة وأجيبت عنها بأجوبة متنوعة، وليس هناك شاهد سمعي ولا بصري يؤكد وجهة ولا فكرة لها ربط بخلق العالم،وبناء على ذلك لايمكننا أن نتكلم بشيء عن بداية العالم، ولم يشرح أحد حقيقة خلق العالم وما فيه من الممكنات الموجودات شرحا وافيا قطعيا لا يُرد إلا اللّٰه ورسوله صلى اللّٰه عليه وسلم، وقد تناقلت في شرح حقيقة بدايته المواقف والوجهات اللامذهبية التي لا تحصى، ومن أشهرها وأكثرها مقبولا في العصر الراهن "نظرية الانفجار الهائل" (The Big Bang Theory).

وهذه النظرية -نفهم بألفاظ يسيرة سهلة- تخبرنا أن العالم بدأ من وحدة امتدت امتدادا دائميا إلى 8.5 بليون سنة حتى تشكلت شكلا حاليا نعبر عنه بالعالم، بينما يتسبب امتداد هذه المادة لتقليل قوتها وكثافتها، 6 لكن هذه النظرية لم يقبلها العلماء والباحثون قبولا تاما؛ فإنها تتنبوأ بعالم مسطح يتساوى فيه تقسيم المادة دون أي ارتفاع وانخفاض في العالم بلا سبب، وليست الحقيقة كذلك.

قد ذكر اللّٰه عز وجل في الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء والرسل (الذين بعثهم اللّٰه بعدد مئة ألف وأربع عشرين ألفا) حقيقةً تاريخيةً وخلفيةً عن خلق البداية والإنسان الأول بكل صراحة، لكن تختلف جزئيات الخلق الأولي في تراث الأديان السماوية، وخلق اللّٰه في الكون سائر الكواكب الفلكية على محور خاص ومدار معلوم كما قال تعالى: وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون، 7 وقال في مقام آخر: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، 8 ويقول في سورة الجاثية: إن في السموات والأرض لآيت للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يؤقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل اللّٰه من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون. 9

إن اللّٰه تعالى فطر الإنسان خلقا عجيبا، وقد شرفه اللّٰه بقدرات نادرة لم يتشرف بها أحد من خلائق اللّٰه عز وجل، فإنه في الحقيقة روح مزين بالعلم والعرفان نفخ في آدم عليه السلام، كما قال عليه السلام: يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّٰه أتقاكم إن اللّٰه عليم خبير. 10

وقد انتقلت التكوينات الدينية إلى التكوينات الطبيعية الحديثة منذ القرن الماضي، وفيها الاستدلالات العقلية والمنطقية التي تدل -في مجال توضيح خلق العالم وبدايته- دلالة غير واضحة على وحدانية اللّٰه وربوبيته وكونه موجودا مدبرا، خالقا ومالكا لجميع الخلائق، لكن قبل أن نبحث عن نتائج هذا الانقلاب الكوني وثمراته نوضح نكتة مهمة، وهي أن شرح العالم وخلق وبدايته شرحا مبنيا على عقيدة التوحيد ورده بناء على أنه لم يوافق العلوم الطبيعية الحديثة ولابد لثبوته من أدلة قطعية قوية خطأٌ فاحش، ولو سلمناه على سبيل الفرض والتقدير فيتضح أن نظرية الانفجار الهائل (The Big Bang Theory) هي أيضا على هذا الشأن حيث لاتوضح خلق العالم توضيحا كاملا، وهذه النظرية(The Big Bang Theory) تعتقد أن العالم منذ بدايته يحمل في طياته امتدادا يميل إلى هلاك المادة وضعفها، ووفق ما تصرح نظرية النسبية (Theory of Relativity) أن الخلاء (Space) ليس بجامد ولا ساكن، إما يمتد وإما ينقبض في أوضاع خاصة، لكن ينشأ هنا سؤال ولا يزال محجوبا بالغموض والخفاء أن العالم لمَ كان في وضع الانقباض والتقلص؟

فنظرا إلى السبب السابق، إن تردد أحد فيما بينته ووضحته العلوم السماوية من خلق العالم بناءً على أن الشرح الإلهي مبني على الخفاء والغموض فوجب عليه أن يقيس ما شرحته العلوم الطبيعية الحديثة على هذا المعيار؛ فإنه أيضا مبني على الخفاء والغموض، وليس هنا بحث استقرائي ولا مشاهد؛ حمايةً لانتقال التكوينات وتغيرها، وأما نظرية النسبية التي توضح الخلق التكويني فعليها اعتراضات وردت في الكتاب المسمى بـ" The Routledge Companion to Theism" وحسب ما ذكر فيه:

  Big-bang theology overreaches if it says that general relativity and the singularity theorems have settled once and for all that the universe had a beginning in time. In fact, relativistic cosmology predicts its own invalidity for times close to a dynamic singularity, such as the big bang. (For a dissenting opinion, see Misner 1969.) The reason that relativistic cosmology predicts its own invalidity is that in the neighborhood of singularities, gravitational effects are intense, and quantum effects can be expected to play a predominant role. But general relativity does not incorporate quantum effects, and indeed it is untested in such regimes of intense gravitational force. Thus, there is little reason to believe that the singularity theorems make a valid prediction about the structure of a future successor theory of general relativity that includes quantum effects. 11
  نظرية الانفجار الهائل هي إن صرحت على أن النسبة العامية(General Relativity) والنظرية الفردية (Singularity Theorems) قد استقرت مرة واحدة، وخلق العالم في الوقت، فالحق أن الوقائع الحادثة في أزمنة قريبة من النسبيات الكونيات (Relativistic Cosmology) والوحدات الحركية (Dynamic singularity) تبطلها وتصرحها على بطلانها، (انظر للاطلاع على رأي مخالف Misner 1969)، وأما إبطال النسبيات الكونيات (Relativistic Cosmology) أنفسها فذلك بسبب أن جاذبية الأرض كانت شديدة في زمان متصل بالوحدة (singularity) كما أن الآثار الكمية المتناسبة(Quantum Effects) لعبت دورا فعالا فيه؛ لكن مع ذلك إن النسبية العامية (General Relativity) لاتحيط بالآثار الكمية المتناسبة(Quantum Effects)، وهي غير مجربة في سلطة جاذبية الأرض الشديدة، فما تدل على أن نظريات الفردية (Singularity Theorems) تنبأ في المستقبل بصحة النسبية العامية المشتملة فيها الآثار الكمية براهين ركيكة ودلائل ضعيفة.

وقد قامت الأوساط الدينية والملاحدة بشرح نظرية الانفجار الهائل (The Big Bang Theory)، وكل يأخذ هذه النظرية المثقفة مؤيدة لرأيه، ومن ثم لايمكن ارتباطها بكل منهما في آن واحد، لكنها ترتب آثارا عميقة على المجالات العلمية والفكرية، والأحوال والعوارض الكونية من دوام الكون أو زواله، وجموده أو امتداده، وتغيره تغيرا يسيرا أو كبيرا، ونسبة التغيرات الواقعة فيه إلى اللّٰه الخالق القادر أو إلى المحركات المستقلة وغير ذلك من فروق واختلافات تشير إلى عمليتها ومنهجيتها، والأجدر بالتنبيه على أن نظرية الانفجار الهائل ليست إلا توضيح محض لخلق العالم دون تقديم غرض وراء خلقه، فهي لاتقدم مفروضة تصدق خالق هذا العالم ولا مفروضة تصدق أن ماذا كان قبل خلقه؟ نعم! إن العلوم الطبيعية المثقفة تحاول في العصر الحاضر أن تثبت الانكشافات والنظريات الحديثة كحقيقة لايردها أي دليل ولا برهان.

هذه النظرية تنشر في العصر الراهن -بصرف النظر عن التكوين الإلهي- موقفا ماديا دهريا يؤكد أن تتكون منهج دراسي وموضوع علمي وفق هذه النظرية كما أنها تشكل منهج الدراسة وخطة العلوم طبق نماذج مخصوصة، وكذلك نظرية تطور أسترالوبيتك أفرانسيس(Australopithecus Afarensis) المسمى بالإنسان القردي إلى هوموسابينس (Homo Sapiens) المسمى بالإنسان الحديث هي نظرية تنبني على بحوث مثقفة اكتشافية، وهي تدعو العقل الإنساني إلى الدهرية والمادية واللادينية وتعينه في هذا السبيل.

عقيدة التوحيد في الحضارات القديمة

تطلعنا دراسة تاريخ الحضارات القديمة أن الإنسان لم يعبد إلها واحدا في قديم الزمان، يقول الباحث تم وائتمارش(Tim Whitmarsh) -بروفيسور الحضارة اليونانية وعضو من أعضاء كلية سينت جان وجامعة كامبرج-: إن الإلحاد كان عاما في الحضارة اليونانية والرومية كما أنه نشأ ونما في المجتمعات الأخرى، فتتوالد من هذه الفكرة شبه وشوائب للذين يعتقدون اعتقادا دينيا في أمر واضح مرتب، ولا تترك للإنسان أن يميل فطريا إلى اعتقاد الوحدانية الذي في الأديان السماوية إلا فسحة يسيرة، ويصرح في كتابه "Battling the Gods" على أن الكفر كان عاما شاملا في اليونان والروم القديمين، وهذا يعني أنه كان فاشيا في كل حضارة العالم، وقد انتهى هذا العصر الإلحادي مع انتهاء المجتمعات المشركة التي كانت تتحمل الإلحاد كمقابل مدافع عن قوة الأديان الإلهية، فقام الموحدون بدعاء إله واحد وبرزوا بعد ذلك في عصر ما بعد التنوير (Post Enlightenment Era).

لانبحث هنا عن فلسفة الإلحاد ولا عن فكرة أخرى مثله، بل نؤكد أن الحقائق التاريخية المتعلقة بتاريخ الحضارة قد نقلت إلينا في منظور مخصوص، كما مر آنفًا أن أهم مزايا الحضارة التي تذكر في الكتب التاريخية مشتملة على انقلابات أساسية كاقتصادية وسياسية وعسكرية بينما الآثار الدالة على وحدانية اللّٰه تعالى تمحى من التاريخ مع أنها متداولة منذ بداية العالم والإنسان الأول.

الحقائق التاريخية المفقودة

إن أقدم تاريخ الأنبياء والأديان السماوية غير مكتوب ولا منقول إلى حد كبير، ولذلك يستصعب تعيين مآثرهم ونشاطاتهم كما يستعسر الاطلاع على مزايا حضاراتهم التي شكلوها في عصورهم؛ لكن الصحف والكتب النازلة في الأديان الثلاثة السماوية تشير إلى الوقائع التاريخية بتفاصيل مختلفة محتوية على عدد الأنبياء وخلق العالم وزمن الحياة الإنسانية وغير ذلك.

إن القرآن قد نقل لخمسة وعشرين فهنت (25) نبيا وقائع تاريخية تصرح على مآثر اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخلاقية في أدوار مختلفة، نعم إن القرآن لايحيط هذه الوقائع بجميع جزئياتها اللاضرورية، وأكثر المفسرين قد ركزوا أذهانهم وأقلامهم على توضيح الرسالة الإلهية المعجزة المعجبة التي جاء بها الأنبياء، ولم يتقدموا إلى ذكر التفاصيل التاريخية التي تتعلق بعصر كل نبي من الأنبياء ولاجمعها.

فوفق ما يشير إليه القرآن، لم يخل قوم من الأقوام ولا منطقة من مناطق أرضية من رسالة إلهية ولا نبي ورسول، بل بعث الأنبياء والرسل في جميع الأقوام في مختلف الزمان والمكان، كما قال اللّٰه عز وجل في التنزيل العزيز: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. 12 وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا اللّٰه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى اللّٰه ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. 13

ولذلك فإن العدل دستور إلهي، وقد حكم اللّٰه عز وجل بأنه لايعاقب أحد ما لم تصل إليه رسالة التوحيد بتوسط الأنبياء والرسل، كما ذكره اللّٰه تعالى في الكتاب المبين: من اهتدى فأنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.14

فاللّٰه عز وجل لم يخبرنا بجميع وقائع الأنبياء المبعوثين إلى الناس لحكم ومصالح يعلمها اللّٰه، لكن من الواضح أن الرسالة الإلهية قد وصلت إلى جميع أقوام العالم، فلم تكن بلاد الشرق الوسطي وأفريقيا مناطقة حظيت برحمة إلهامية، بل حظيت بها كل قارة وحضارة إما بإجابة إيجابية أو بمعاملة عنادية، وقد ذكرت هذه الحقيقة آنفا أن معظم تاريخ الأنبياء موجود بشواهد تاريخية وأدلة قوية في شكل غير محرر يبين مزايا وخصائص الحضارات القديمة، ولذلك لم ينقل غير ما ذكر في القرآن والكتاب المقدس من نشاطاتهم وجهودهم ووقائعهم التاريخية.

وثوق المؤرخين

قد يرد سؤال غامض على ثقة المؤرخين القدامى وأهليتهم والتعويل عليهم في الأخبار التاريخية، وهو أن الآلات المخترعة المثقفة هل تصلح لأن توضح أهلية المؤرخين وتنقدها نقدا صحيحا؟ مثلا استعظام بعض الملوك والقادة الحربيين كجيوليس سيزر الوحشي (Julius Caesar)، وسكندر السفاك (Alexander)، وسلا الحيوان (Sulla)، وذكرهم كرجال عباقرة توفر شبهات وإيرادات ترد على الوقائع التاريخية الأخرى، فلابد أن نتفكر في معايير متعينة -قبل تقليب صفحات التاريخ- للحكم على فكرتهم المنحازة، وعصبيتهم وأهلية حضارتهم وثقافتهم.

والأجدر بالذكر هنا أن المؤرخ اليوناني هيرودوتس (Herodotus) قد أطلق عليه المصنف الرومي والخطيب الشهير سيسرو (Cicero) أبا التاريخ "The Father of History" نظرا إلى كتابه الشهير "The Histories"، لكنه في الحقيقة رجل كذاب نذلٌ سقطٌ استخدم المناصب الحكومية للحصول على أغراضه السيئة، ومن ناحية أخرى قد أطلق عليه النقاد أبا الأكاذيب (The Father of Lies)، ويذكر هؤلاء النقاد أن تاريخه المدون ليس هو إلا أساطير طويلة أو فوقها قليلا، وتقريبا للفهم نقول: إن هيرودوتس (Herodotus) أسّس خططه التحقيقية على رحلاته التي ارتحل فيها إلى مصر وأفريقية وقارة آسيا ثم حفظ مشاهداته ومحادثاته مع عامة الناس في هذه الرحلات بأسلوب جامع وقريحة ثابتة.

وأكثر ما اشتمل عليه تاريخه وضعه هو بنفسه، ولذلك من أصعب الأمور أن نميز الحقيقة من أسطورتيه والحق من عصبيته، فقد خلط هيرودوتس (Herodotus) الحقائق التاريخية بأغلوطات مضحكة، كما ذكر بلد بابل بيموت (Babylon the Behemoth) أعظم وأشهر من البلاد الأخرى، وأيضا يذكر أن طريق بابل الداخلي كانت بها مئة (100) باب من النحاس، ويبلغ ارتفاع سورها إلى مئة (100) متر أي: ثلاث مئة وثمانية وعشرين(328) قدما، وطولها إلى اثنين وعشرين (22) كلومترا، أي: أربعة عشر(14) ميلا، وعرضها إلى خمسين (50) مترا، أي: مئة وأربعة وستين (164) قدما، ويزعم هيرودوتس (Herodotus) أنه رأى حفرة عميقة مليئة بالمياه محيطة بالبلدة من جميع أطرافها، وأما المؤرخون الآخرون فلم يتفقوا بعد على أن هيرودوتس قدم إلى بابل، ورأي النقاد في هذا المجال هو أن كل هذه التفاصيل موضوعة كاذبة، وتنبئ الآثار القديمة عن أن أبواب بابل كانت ثمانية لا مئة باب، ولم تكن أعظم كما اجترأ على استعظامها هيرودوتس (Herodotus)، والظن الغالب أنه لم يأت بابل قط وإن ذكر أحوالها وأوضاعها كأنه رآها بنفسه.

كما ذكر مصر ذكرا مفصلا مشتملا على بيان نهر النيل وتحنيط الأجسام الميتة والأخلاق المتنوعة للرجال والنساء في مصر والحيوانات والأعياد المقدسة وجوانب المجتمع الأخرى اجتماعية وحضارية وسياسية، لكن أكثر الإخباريين مازالوا متحيرين وشاكين في أن هيرودوتس قد ذهب إلى مصر أم لا؟، فإنه أغمض البصر عن ذكر عدة أمور مهمة، مثلا إنه بسط الكلام في ثلاث قارات وترك ذكر أبا الهول (Sphinx)، وذلك أمر مريب جدا، (ولو زار هذه القارات الكبيرة في الحقيقة لذكر أبا الهول أيضا)، وإضافة إلى ذلك، يذكر لتحنيط الأجسام الميتة طرقا ثلاثة من أثمنها إلى أرخصها، فوفق ما قاله هيرودوتس أن الرؤساء المصرية يفصلون أعضاء الأجسام الميتة من جانب البطن الأيمن في تحنيطها، بينما عامة الناس يستخدمون زيت الأرزهملايا لتقطيع الأعضاء بسرعة، فما ذكره هيرودوتس (Herodotus) كأنه حزمة غير موثوقة من الأكاذيب والأباطيل التي ليست لها حقيقة إلا الأساطير المتداولة، ومع ذلك أنزله المؤرخون الأوربيون منزلة رفيعة في باب التاريخ والحضارة بسبب كونه عدوا بغيضا لعقيدة التوحيد ومحبا شديدا للإلحاد؛ فإن المجتمعات البشرية ترى حسب ما ذكر أحوال الحضارة والثقافة ملحدة ومشركة، ولم يكن فيها ذكر نبي من الأنبياء ولا أحد موحد، وهذا هو غرض المجتمعات والحضارات اللادينية في العصر الراهن، ومن ثم يقتدون به كإمام لهم وأب للخطيب الشهير كسيزورو (Cicero).

أخطاء واقعة في عقيدة التوحيد

القيام بانسجام مع نقطة مهمة خاصة وراء التاريخ القديم غير الأخطاء الواقعة في الإحصاءات الأساسية قد صور الأحوال التاريخية بصرف النظر عن آثار الأديان السماوية تصويرا خاصا، وتقدم كل مجموعة من التاريخ القديم مثل هركوليس (Hercules) في اليونان القديم الثقافة الاجتماعية متلازمة مع القيم الملحدية والأصنام لكنها تصرف النظر عن الأنبياء وأهميتهم وعصورهم كأنهم لم يكونوا على وجه الأرض، نحو ملك مصر القديم (الذي كان يطلق عليه فرعون) كان يزعم عن نفسه أنه ملك إلهي وإله مجسم على الأرض أو نائبا عن الآلهة المعبودين، ومن أفكاره أنه هو الوسيلة الوحيدة التي تربط بين الآلهة والمجتمعات البشرية بتنفيذ الأحكام الإلهية.

فهل يصح القول بأن عقيدة التوحيد التي هي عبارة عن الإيمان باللّٰه في الأديان السماوية الثلاثة لم يكن لها وجود في قديم الزمان كما نراها في الكتب التاريخية المصنفة حول الحضارات القديمة؟ فإن كانت الإجابة بنعم، فهل تُطور الأفكار الإنسانية وتنميها أم نشرت الشرك وعبادة الأصنام في العالم؟ فكلمة التوحيد تشير في اليهودية والنصرانية والإسلام إلى عقيدة وحدانية الإله المعبود الواحد، وهذه العقيدة هي رسالة بعث بها الرسول صلى اللّٰه عليه وسلم ودعا الناس إليها. يقول اللّٰه عز وجل في التنزيل العزيز:

  قل هو اللّٰه أحد اللّٰه الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. 15

فواصل الدين الإسلامي الحنيف هذه الرسالة الإلهية بوجوده وداوم عليها مستمرة جارية كما استمرت بتوسط آلاف نبي من أبي البشر آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى اللّٰه عليه وسلم حيث قلع الإسلام كل فكرة تشرك مع اللّٰه في ذاته وصفاته، وقد صرحت هذه الرسالة الآفاقية في القرآن المبين، ونشر الرسالة الإلهية مسؤولية الأنبياء، وأدوها إلى أممهم تأدية كاملة.

قد صرح الدكتور كلفورد ولسن (Dr. Clifford Wilson) رئيس مهعد الآثار القديمة الآسترلوية في كتابه (The Concept of Monotheism in Ancient Times) على شواهد عديدة دالة على فكرة التوحيد الموجودة في عدة حضارات قديمة، وعلى الأخص بحث في الباب الحادي عشر من ذلك الكتاب عن شواهد تدل على عقيدة التوحيد في مصر والحضارات القديمة، وهي من أفضل الشواهد في مجالها لدى القرآء.

إن العالم القديم كان في الحقيقة موحدا يؤمن بإله حقيقي واحد، وقد قدم الدكتور آرتهر سي كستينس (Arthur C. Custance) في عدد الرابع والثلاثين من سلسلته المسماة بـ (The Doorway Papers’ (Brockville, Ontario, Canada) شواهد تدل على أن الناس كانوا موحدين في العصور القديمة خلاف ما اختارها المؤرخون من المواقف، وكذلك نقد الباحثون أخبار ووقائع الأقوام القديمة حيث قالوا:

  ... found themselves dealing with a tremendous number of Gods and Goddesses and other spiritual powers of a lesser sort which seemed to be always at war with one another and, much of the time, highly destructive. … As earlier and earlier tablets, however, began to be excavated and brought to light, and skill in deciphering them increased, the first picture of gross polytheism began to be replaced by something more nearly approaching a hierarchy of spiritual beings organized into a kind of court with one Supreme Being overall. 16
  عثروا على أنفسهم معاملين مع الآلهة بعدد كبير ومع ناس يحملون قوة روحانية يجادلون فيما بينهم، وأكثر أوقاتهم مشغولة بأشغال تخريبة وتدميرية، كما نطلع عليها في ألواح وكتابات منكشفة في حفر آثارهم، وهي تدل على ذلك العهد وقبله، ومع مرور الزمن تطورت أهلية الباحثين والماهرين في حل عباراتهم وفهمها، فتصورت مكان صورة المجتمع المستغرق في الشرك صورة المجتمع المتشابه المتكون من طبقات الخلائق الروحانية المنظم كمحكمة يقضي بها أحد.

وقد أكد استيفن لينكدن (Stephen Langdon) هذا الرأي في كتابه " Semitic Mythology" عام 1931 حيث ذكر أن عقيدة التوحيد كانت متداولة قبل عبادة الأصنام ( والحال أن هذا الرأي كان منافيا لاعتقاد مقبول متداول)، وقد وضح رأيه بكل صراحة حيث بقوله:

  In my opinion the history of the oldest civilization of man is a rapid decline from monotheism to extreme polytheism and widespread belief in evil spirits. It is in a very true sense the history of the fall of man. 17
  أرى أن تاريخ الحضارة القديمة البشرية عبارة عن انحطاط من عقيدة التوحيد الطيب إلى الشرك الخبيث والانقياد للأرواح الشيطانية، وهذا في الحقيقة أقبح التاريخ لانحطاط البشر.

ويزعم أنه يمكن الاطلاع على تاريخ المذهب السميري (Sumerian Religion) القديم الحامل لنفوذ حضاري عميق في ألواح وكتبات على أحجار وجدران ونقوش وآثار أخرى، وبها يمكن الوصول إلى أقدم الأفكار الدينية، فهذه الشواهد والأدلة تشير إلى عقيدة مبنية على أصل التوحيد دون أية مرية ولا فرية كما تشير إليها كتبات الأقوام السامية القديمة (Semitic People) وتراثها الأدبي، فموقف أن الدين العبري (Hebrew) أو الأديان السامية كانت وثنية الأصل (Totemic origin) قد أصبح ركيكا في العالم. 18

الانتقال من التوحيد إلى الأساطير الأباطيل

قد ذكر ميكس مولر (Max Muller) الباحث الألماني في كتابه " Lectures on the Science of Language" المطبوع عام 1875م:

  Mythology, which was the bane of the ancient world, is in truth a disease of language. A myth means a word, but a word which, from being a name or an attribute, has been allowed to assume a more substantial existence. Most of the Greek, the Roman, the Indian, and other heathen Gods are nothing but poetical names, which were gradually allowed to assume divine personality never contemplated by their original inventors. … Eos was the name of dawn before she became a Goddess, the wife of Tithonos, or the dying day. Fatum, or Fate, meant originally what had been spoken; and before Fate became a power, even greater than Jupiter, it meant that which had once been spoken by Jupiter, and could never be changed – not even by Jupiter himself. … Zeus originally meant the bright heaven, in Sanskrit Dyaus; and many of the stories told of him as the supreme God, had a meaning only as told originally of the bright heaven, the Danae of old, kept by her father in the dark prison of winter… 19
  الأسطورية التي كانت سما قاتلا للعالم القديم إنها في الحقيقة مرض لاحق بالألسنة، الأسطورة أو الخرافة عبارة عن كلمة إلا أنها مسموحة لأن تتحصل على وجود حقيقي دون أن تكون اسما أو صفة لشيء، والآلهة المعبودون في الأقوام المشركة من اليونان والروم والهند وغيرها الذين ذكرهم الشعراء في القصائد والأشعار ليسوا إلا أسماء محضة، وقد كانو مسموحين لأن يلبسوا رداء فوق البشر تدريجا، ولم يتفكر عن ذلك واضع هذا اللفظ، مثلا إي أوس (Eos) كان في الأصل اسم الصبح ثم تنزل منزلة إلهة كما كانت هي زوجة تيتهونس (Tithonos) أو يوم الموت، وكذلك المراد بفاطم (Fatum) هو الذي أريد به أصلا، وجيوبيتر (Jupiter) أريد به نفسه قبل أن كان قوة قوية، وهذه حقيقة لا تتغير حتى لايمكن للمشتري أن يغيرها، والمراد بزئيوس (Zeus) في اللغة السنسكرتية سماء مضيئا، وكذلك أساطير أخرى تتنزل منزلة الإله العظيم الذي أريد به معنى حقيقيا أي السماء المضيئ. وكذا ذكره ميكس مولر في كتابه الآخر:
  There is a monotheism that precedes the polytheism of the Veda; and even in the invocation of the innumerable Gods the remembrance of a God, one and infinite, breaks through the mist of idolatrous phraseology like the blue sky that is hidden by passing clouds. 20
  هذه هي عقيدة التوحيد التي كانت قبل العقائد الملحدية لويدا، ويتلمع ذكر الإله الواحد الأحد من خلال ذكر الآلهة الكثيرة تلمع السماء الأزرق من خلال السحائب المتراكمة.

فالتوحيد أي عبادة الإله الواحد مع الاعتقاد بالقيم الأخلاقية أثّر على نظام خلقي صنعه البشر عن طريق الأديان السماوية أثرا بالغا، والقول بأن كل حضارة قديمة مبنية على رسالة سماوية دينية حق سديد، وقد بلغها الأنبياء والرسل إلى البشرية في كل عصر ومصر، ثم انتهت على سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، بينما ظل تافه للإشراك بالله دليل على ضعف عقل الإنسان وإدراكه وضعف حكمته وبصيرته، وأساسه فساد للفكر الإنساني والاعتقاد الحقيقي.

فالكتب التي صنفت على تاريخ الحضارة والثقافة وأخفيت فيها الحقائق (كما تخفى في الأيام الحاضرة) لابد أن تكون دراستها وقراءتها على سبيل النقصان؛ فإنها بحاجة ملحة في تدوينها وترتيبها إلى مساعدة الرسالة الألهية الكاملة، فيتضح من البحث المذكور أعلاه أن تاريخ الحضارة القديمة ليس مبنيا على الملحدية والمادية كما ذكرت في الكتب التاريخية، بل كان فيها للأديان السماوية سهم كبير لم يذكر في كتب التاريخ قصدا أو سهوا؛ فإن تعاليم الأنبياء كانت مبنية على التوحيد، وذلك مبني على عبادة الله وحده والخوف والانقياد له، ولم يبحث عنها المؤرخون في الأغلب، لغلبة الشهوات النفسانية والدنيوية والترفيهية على طبائعهم، وهي تسمح لهم بأن يذكروا آتوم (Atum) الإله الكذاب مشتغلا باللذات الشهوانية عن طريق الحضارة والثقافة، لكن الحضارة التي قدمها الأنبياء بل نفذوها على وجه الأرض لا تسمح لهم أن يرتكبوا الحرام ولا أن يستأصلوا خلائق الله عز وجل.

المعايير التي تحدد أصل الحضارة ومقامها

نتقدم هنا إلى ذكر معايير تؤصّل أصلا أصيلا لحضارة عالمية، فالعلوم الطبيعية والتكنالوجية، والفنون العمرانية والمهارات العسكرية مع علوم التجارة والزراعة كلها أمور مشتركة ينقد بها إخباري حضارة قديمة أيا مّا كانت، فأصل العلم ومبادئه الأساسية تدور حول الأغراض الدنيوية والأهداف المادية، أما أفكار التطوير والتقديم فهي نتائج العلم وثمرات المعرفة في أشكال مخصوصة، لكن الأديان السماوية وخاصةً الدين الإسلامي الحنيف يربط بين فكرة دنيوية وفكرة أخروية ربطا محكما، ويبني قصر حضارته الشامخ عليه.

وقد تراكمت الكتب التي صنفها العلماء المسلمون في التعريف على شعب الحياة المتنوعة وإطاراتها وإطلاقاتها نحو الإمام الغزالي الذي يبحث عن العلم وأنواعه من الخير والشر وأسراره وحكمه، وقد بين مصادر أساسية دينية لحصوله كما ذكر طرق ومناهج حصوله وأهميته، وميز بين العلوم بأصول قطعية، وما يحصل بها مبني على تركيز التوجه القلبي الحياة بعد الممات وقضائها في ظل وحدانية الله تعالى، فلم يكن الرخاء الاقتصادي ووفرة الثروة في دولة أقامها نبي من الأنبياء إلا ما أقامها سيدنا يوسف وسيدنا سليمان عليهما السلام؛ لسلطتهما الوسيعة وقوتهما القوية.

وقد أنعم الله تعالى على سليمان بن داؤد عليهما السلام بمواهب عديدة كتحاور مع الحيوان، وغلبة على الجن والشيطان، وحكمة عميقة وعقل ثاقب حتى سخّر له الرياح، فأطاع الله وحده طيلة حياته وحكم بعدل وأمن وسلام وقد وهبه الله ملكا لم يكن لأحد قبله ولا بعده، ومع ذلك أينما ذهب بلغ دعوة إلهية وشرحها، وروي أنه أرسل رسالة إلى قوم شيبة وكان يسجدون للشمس فخاطبهم بقوله:

  إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم 30 ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين 31 21

فقد امتثل بجميع أوامر الله تعالى ونواهيه، ونتيجة لذلك بشر في آخر عمره بقرب إلهي في الجنة وكان من أعظم الملوك والسلاطين في تاريخ العالم.

وسيدنا يوسف عليه السلام أفضل نموذج من الأنبياء الذين وهبهم الله ملكا دنيويا، وقد واجهته قبل ذلك مشاكل وشدائد من الإخوة والملوك وآخرين، وكان مسجونا مدى سنوات، فدعا من كان معه في السجن إلى وحدانية الله وربوبيته حيث أخبرهم بأنه يعرف تأويل الرؤيا، وتأويله وصف خصه الله به، وأقنعهم على ركاكة عقيدة الإيمان بالأصنام وعلى حقية وحدانية الله عز وجل ويوم القيامة والبعث بعد الموت والحشر، وبعد أن افتتن بعدة شدائد أصبح ملكا على مصر، فحصلت له الخبرة على كثرة الحاصلات ووفرة الثروة، وليس معنى ذلك أنه أغمض البصر عن الرسالة الحقيقية؛ فإنه كان يدعو الناس إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وإطاعته ويمتثل بما أمره به من العبادات اليومية.

نظرا إلى الأمثلة السابقة نقول مع الأسف الشديد: إن تفاصيل أرض الأنبياء وخاصة مصر غير محفوظة في كتب التاريخ والبحث عن تلك الحضارات التي تطورت تحت الرسالة الإلهية ليس بسهل هين، لكن القرآن المبين أشار بأسلوب أروع إلى أمور مهمة نعرف منها أصل الحضارة الحقيقية وأساسها.

ولقد توجد لدينا أمثلة عديدة للمجتمعات الثرية التي أعرضت عن إطاعة الله وحده عتوا واستكبارا وعصوه عصيانا كعاد وثمود، وكان الأنبياء مبعوثين لإصلاح الناس ودعوتهم إلى الله، لكنهم داوموا على اعتقاداتهم المشركة، وبسبب ذلك أنزل الله عليهم أنواعا من العذاب، فطمس آثارهم ومساكنهم وقراهم، قال الله عز وجل في التنزيل العزيز:

  ألم تر كيف فعل ربك بعاد 6 إرم ذات العماد 7 التي لم يخلق مثلها في البلاد 8 وثمود الذين جابوا الصخر بالواد 9 وفرعون ذي الأوتاد 10 الذين طغوا في البلاد 11 فأكثروا فيها الفساد 12 فصب عليهم ربك سوط عذاب 13 22

الرخاء الاقتصادي نعمة من نعم الله تعالى، ويجب أن نشكر الله عليها في صورة التواضع والإطاعة والانقياد أمامه تعالى، ولا يختلف هذا عن أمر القوات المادية والنعم الأخرى، فالرخاء والسرور، القصور الشامخة والمهارات الفنية، الزراعة والتجارة وفنون أخرى كلها نواحي ثانوية لحضارة قوية، وخاصية الحضارة العظيمة الأساسية مبنية في الأصل على علم يقرب العبد إلى الله وإطاعته، وهي حقيقة يؤيدها أصدق الكتب في العالم أي القرآن.

الحضارة الغربية الراهنة

لما حسب الناس أن غاية الحياة الدنيوية هي نضرة دنيوية ترفيهية وفكرة تطويرية وشهوة دنيوية فانحرفوا عن مقصدها الأصلي الذي بينته الأديان السماوية، فالحضارة الغربية المعاصرة تهتم بخمس نكات منذ عدة قرون في إطار التطوير من خلال مجالات العلم والقوة التي أسست على منهجية غريكو رومن (Greco-Roman)، وقد ذكر هذه الخمسة رابرت نيسبيت (Robert Nisbet) الاقتصادي الشهير على النحو التالي:

  1. قيمة العصر الماضي
  2. شرف وفضل الحضارة الغربية
  3. أهمية التطوير الاقتصادي والتكنيكي
  4. اعتقاد العلوم الطبيعية والعقلية المأخوذة من الاستدلالات المنطقية
  5. أهمية الحياة على وجه الأرض

كأن الفلسفة الغربية تنظر إلى فكرة التطوير بمنظار مختلف تماما، وقد كان أفلاطون يرى تطوير البشرية في تأسيس الدولة وتكوين الحضارة، وتنسيق الاقتصاد والسياسة حتى إلى المستوى النهائي.

وفي دور النشأة الثانية قد انتقلت المنهجية الطبيعية الأصولية (النظم الفلسفي الأرسطوطاليسي) إلى أفكار تجربية، وأثرت في تغيير الموقف العام حول الفطرة والتطوير الطبيعي، وأفسحت مجالات لتطوير فني واقتصادي، وإلى جانب ذلك يرى الإنسان حلم الألوهية عن طريق الحصول على الكمال الإنساني اللامتناهي والوصول إلى حقيقة فكرة التطوير، فواصلها الفلسفي المثقف المؤرخ والتيئر (Voltaire) بحب العقلية بينما العلم الطبيعي والعقل كقوة محركة لتطوير المجتمع، وأما كانت (Kant) فهي عنده عبارة عن الانتقال من البربرية إلى الحضارة المثقفة، وإنهاء الحرب والضرب، وتطوير التعامل العالمي، تطوير شخصي مبني على التثقف.

فالفكرة الغربية قلبت ناحية الفكر والنظر من العقلية إلى المجتمع اللاديني والأفكار القديمة اليونانية، وهذا التغيير الفكري المهم مهّد للإنسان جنة دنيوية على وجه الأرض، ويتطور عليها شيئا فشيئا كما جرح هيكل النصرانية اجتماعيا وأساسيا وانتقد أسس الأديان في العالم بينما المفكر الديني يبذل جهوده دفاعا عن موقف الفكر بطريق شرح المتن، وأهم من ذلك أن موقف الفلاح والتطوير عكس ما في الحضارة الجديدة.

التطوير في الإسلام

نبحث هنا عن أفكار بينها القرآن والسنة في مجال التطوير والتقديم، فخيرُ الناس الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وكلما ابتعد الناس عن ذلك العصر الذهبي فتنازلوا عن الخيرية شيئا فشيئا، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

  خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته. 23

ونقول بعبارة أخرى: خير الناس في الإسلام على طبقات:

  • الطبقة الأولى: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم
  • الطبقة الثانية: الذين اتبعوا الطبقة الأولى (وهم التابعون)
  • الطبقة الثالثة: الذين اتبعوا طبقة التابعين (وهم تبع التابعين)

العصر الذهبي المهم هو عصر إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم موجودا بين أظهر أصحابه بنفسه النفيسة ثم يليه فيليه، ثم انحط الناس عن تلك الرتبة بسبب ضعف علاقتهم الروحانية بالنبي صلى الله عليه وسلم حيناً فحيناً، ولا شك في أن أفضل الحضارة والمجتمع والناس هم نفوس زكية صحبت الرسول صلى الله عليه وسلم، والمدينة المنورة أول بلدة على وجه الأرض حيث وضعت أصول عالمية لحضارة حقيقية يجب العمل بها في كل مكان، من تلك الأصول:

  1. ربط العباد بربّ العباد بالأدعية والعبادات
  2. وضع القوانين الخلقية والاجتماعية التي تربط بين المسلمين ربط الأخوة
  3. وضع القوانين التي توضح علاقات وارتباطات المسلمين مع غيرهم
  4. القيام بهيكل بلدي قوي والارتباطات مع الدول والقبائل المجاورة
  5. 5. القيام بالتسهيلات الاجتماعية والاقتصادية (الأسواق والزقاق والشوارع والتسهيلات العامية)
  6. القيام بعساكر مدافعين عن الدولة

لابد لكل مجتمع بشري أن تتوفر فيه الوسائل التي تعين الناس على عبادة الله دون أي مانع، أما الشعب الأخرى من الاقتصاد والعسكر والاجتماع والهيكل وغيرها تشكل للحصول على هذا الغرض الأكبر، وقد شوهد سمو الأفكار البشرية مع تطوير سياسي في القرن السابع والثامن الميلاديين عندما آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واعتصموا بذيل حبه وعشقه صلى الله عليه وسلم، وآنذاك معاهد كبيرة لعلم ديني وتطوير سياسي، فقطع العلمُ الطبيعي مراحل التطوير في العالم الإسلامي منذ عام سبع مئة وست وثمانين (786) إلى عام ألف ومئتين وثمانية وخمسين (1258) للميلاد، وكانت العلوم الطبيعية محتوية على قائمة كبيرة من المضامين كالفلكيات والرياضيات والطبيات وغيرها، والبحوث الطبيعية مشتملة على العلوم الكيميائية والنباتية والزراعية والجغرافية والتصميمية والبصرية والحيوانية.

أما مضامين العلوم البشرية فدراسة التاريخ وفّرت للمسلمين ملكة ووعيا خاصا حيث دونوا تاريخ الإسلام وتاريخ العالم بأكمله، فبحثوا عن الحقائق ببصيرة، و عن الوقائع والناس والأمكنة بجهة فلسفية، وأشير إليها في التاريخ العالمي الشهير الذي صنفه الخطيب البغدادي (من 838 إلى 926)، فقد بسط الكلام في تعريف علم التاريخ وأسراره ومنهج عمله في مجلد مستقل.

كما أن الإمام الطبري وغيره من المؤرخين المسلمين كابن خلدون وابن كثير وابن عساكر قد صنفوا كتبا ضخمة على تاريخ الأنبياء والملوك، وما زالت هي وثيقة جامعة شاملة لعصر ما بين إبراهيم عليه السلام إلى القرن العاشر الميلادي، فلم يقم المسلمون بحفظ تراث العالم القديم فقط بل قاموا بتدوينه وترتيبه وشرحه ونقده ومراجعته ونشره في حلة جديدة، فالصفحات القادمة سعي من هذه السلسلة التي أحاطت بالحضارات القديمة المعاصرة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، كما أثبتنا فيها أن تلك الحضارات لاتليق بالقبول والاتباع من حيث كونها غير جامعة ولا عالمية، بل كل منها كانت مجموعة عيوب كثيرة، فكان لابديا أن تبعث في العالم شخصية عبقرية تؤسس حضارة عالمية مشتملة على جميع الخصائص والخصائل التي هي توجد في الحضارات السبعة المعاصرة، ولكن من اللازم أن لايكون فيها عيب يمنعه من قبولها العام، ولابد أن تكون تلك الحضارة أرفع وأفضل من الحضارات السبعة وأعلى وأنزه من كل عيب يبعد الإنسان من الله تعالى، ولا بد أن تكون فيها كل خصلة تقرب العبد إلى معبوده.

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأسّست حضارة عالمية متنزهة من جميع العيوب، وتحمل في طياتها قبولا تاما في كل عصر وكل مصر، وتصلح لأن تقبل كل تغيير عمراني زمانيا كان أو مكانيا، ويحل عقده حلا واضحا، ونعبرها بـ"الحضارة الإسلامية أو الثقافة الإسلامية"، وتكون هي عالمية إلى أبد الآباد كما تتضح في الأوراق الآتية. إن شاء الله.

 


  • 1 Will Durant (1942), The Story of Civilization: Our Oriental Heritage, Simon and Schuster, New York, USA, Part One, Pg. 1-90.
  • 2 Chris Scarre & Brian M. Fagan (2016), Ancient Civilizations, Routledge, New York, USA, Pg. 7-8.
  • 3 Bertrand Russell (2008), The Problems of Philosophy, Arc Manor, Maryland, USA, Pg. 52.
  • 4 Encyclopedia Britannica (Online Version): https://www.britannica.com/topic/rationalism: Retrieved: 21-08-2019.
  • 5 القرآن ،سورة القصص 28 : 07
  • 6 Routledge Encyclopedia of Modernism (Online): https://www.rem.routledge.com/articles/big-bang-theory: Retrieved: 12-12-2019
  • 7 القرآن، سورة الأنبیاء33:21
  • 8 القرآن، سورة الأنبیاء30:21
  • 9 القرآن، سورة الجاثية 45 : 3-5
  • 10 القرآن،سورة الحجرات 13:49
  • 11 Charles Taliaferro Et. Al (2013), The Routledge Companion to Theism, Routledge, New York, USA, Pg. 245.
  • 12 القرآن، سورة الفاطر 24:35
  • 13 القرآن، سورة النحل36:16
  • 14 القرآن، سورة بني إسرائیل15:17
  • 15 القرآن، سورة الإخلاص112 : 1-4
  • 16 Doorway Papers by Arthur C. Custance (Online): https://custance.org/Library/Volume4/Part_ II/chapt er1.html: Retrieved: 13-12-2019
  • 17 Dr. Henry Morris (2000), The Long War Against God, Baker Books, Arkansas, USA, Pg. 293.
  • 18 Stephen Langdon (1964), The Mythologies of All Religions: Semitic, Cooper Square Publishers Inc., New York, USA, Vol. 5, Pg. 10-11.
  • 19 Max Muller (2010), Lectures on the Science of Language in 1861, Project Gutenburg, Utah, USA, Pg. 12.
  • 20 Max Muller (1859), A History of Ancient Sanskrit Literature, Williams and Norgate, London, U.K, Pg. 559
  • 21 القرآن ،سورة النمل 30 : 27-31
  • 22 القرآن، سورة الفجر 89 : 6-13
  • 23 أبو عبد الله محمد بن إسماعیل البخاري، صحیح البخاري، حدیث :2652، مطبوعة: دارالسلام للنشر والتوزیع، الریاض، السعودية، 1999م، ص :329