(مترجم: محمد زید ملك )
لطالما تم الاعتراف بمجال علم الأنساب باعتباره أحد أهم المبادئ المنظمة والمؤثرة في المجتمعات القديمة، لقد ارتبط العرب القدماء في التاريخ بمعرفة عميقة عن النسب والقرابة. كما عُرفوا بالاعتزاز اللامتناهي بنقاء الدم والأصل النبيل. علاوة على ذلك، من المعروف أن العرب مغرمون بلشكل مفرط بالأنساب وغالبًا ما يتتبعون نسبهم إلى آدم . إنها حقيقة تاريخية أنه لا توجد أمة سوى العرب، التي قامت برفع درجة علم الأنساب إلى مرتبة علم معترف به.1
النسب أوعلم الأنساب وسيلة لاستنتاج الصفات المختلفة للقبائل والعائلات المتنوعة. وهذا التقسيم بين الأمم والقبائل بحسب القرآن الكريم من صنع اللّٰه حتى يتعرف الناس والأمم على بعضهم البعض2 ويتعرفوا على صفاتهم الفريدة، وليس هذا التقسيم للتكبر أوالاعتزاز على أساس الانتماء القبلي.
لقد أرسل النبي أسوة كاملة للإنسانية في جميع جوانب حياتهم، لذا كان نسبه أيضًا من ناحية الأب والأم،3 أفضل الأنساب بين الناس في العالم.4 إن نسبه وصدقه وأمانته وعطفه ورأفته كانت معروفة ومشهورة في شبه الجزيرة العربية5 في ذلك الوقت وفيما بعد اشتهرت في جميع أنحاء العالم.
يصل نسب الرسول إلى نبي اللّٰه إسماعيل، ويُدعى أنه من بني إسماعيل. كان أحد أبناء إسماعيل يدعى قيدار، ومن ذريته برز رجل يُدعى عدنان، وهو أب قبائل العدنانيين في الجزيرة العربية.6
ينتمي النبي إلى فرع قريش من العدنانيين، وهم من ذرية فهر بن مالك.7
وقد تبين بعد التحقق من صحة ما جاء في كتب السيرة ومن قبل علماء الأنساب من أن نسب الحبيب قد سُجل بمنتهى الصحة والدقة حتى يصل إلى سلفه عدنان.8 ويذكر ابن كثير أن نسبه إلى عدنان واضح بلا خلاف، مثل وضوح فلق الصبح9 وهذا النسب يصل إلى عدنان عبر عشرين سلفًا وهم كالآتي:
محمد بن عبد اللّٰه ابن عبد المطلب ( شيبة) بن هاشم، (عمرو) بن عبد مناف (المغيرة) بن قصي (زيد) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر (قرىش) بن مالك بن النضر (قىس) ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة، (عامر) بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد ( أدد).10
وتشير التقديرات إلى أن عدنان ولد عام 122 قبل الميلاد، بينما ولد فهر بن مالك عام 208 الميلادي،11 ويتوقع المؤرخون أن إبراهيم وإسماعيل عاشا في أوائل الألفية الثانية قبل الميلاد.12 والفترة الزمنية المقدرة بين النبي وإبراهيم حوالي2500 سنة، بينما بين عدنان وإبراهيم مسافة تقدر بحوالي 18 قرنًا.
وكما ذكر ابن سعد قول ابن عباس أن الرسول كان يتوقف أثناء ذكر نسبه عند عدنان ويشير إلى أن النسب الذي اشتهر بين عدنان وإبراهيم ليس بصحيح وأن النسّابين قد كذبوا في هذه الأنساب.13
ومع ذلك فإن هذا حديث وحيد الذي ينص على كذب علماء الأنساب، لكن يعتبر هذا الحديث ضعيفًا وفقًا لقواعد أصول الحديث، من ناحية الدراية (أي صحة مطابقته عقلياً مع القرآن والسنة)، فهذا الحديث ضعيف لأن محتواه ينص على أن نسبه مجهول (غير معروف). وقد ادعى أهل الكتاب بمثل هذه الأشياء واشتهروا بها لاحتقارهم الإسماعيليين. ثم هناك حديث آخر نقله الإمام أحمد بن حنبل14 والإمام الدولابي15 والإمام الترمذي أيضًا. يقول الإمام الترمذي:
إن اللّٰه خلق الخلق فجعلني من خيرهم.16
كما نقل الإمام البخاري حديثاً مشابهاً،17 ولا يقال هذا إلا إذا كان نَسَبُ المرء معروفاً وأهل ذلك النسب معروفين أيضاً.
أما التفاصيل المتعلقة بنسبه . من عدنان فصاعدًا- فإنها متوفرة أيضًا في كتاب روخيا18 المعروف أيضًا باسم يوراخ (باروخ). كان يوراخ (باروخ) كاتبًا للنبي إرميا19 وكان من أهل الكتاب المشهورين. وهناك العديد من الاقتباسات الأخرى بخصوص عدد الأجداد بين عدنان وإبراهيم . وقد ذكر البعض أربعين سلفًا بين عدنان وإبراهيم ، بينما ذكر آخرون أقل من خمسة أجداد بينهما.20 ورغم ذلك، فإن الرواية الأنسب هي أنه كان هناك 40 سلفاً بين عدنان وإبراهيم و 20 سلفاً من إبراهيم حتى آدم .
وقد اختلف الروايات عن السلف بين إبراهيم وعدنان على النحو التالي:
لا تعتبر هذه الروايات دقيقة لأن هناك فرقًا يقارب 1800 عام بين إبراهيم وعدنان، ومن المستحيل أن يكون بينهما 10-15 سلفًا فقط. والآن يُذكر النسب الكامل من عدنان حتى آدم على النحو التالي:
عدنان بن أدد بن هميسع، وهميسع هو سلمان وهو أمين، ابن هميتع، وهو هميدع وهو الشاجب ابن سلامان، وهو منجر، وهو نبيت بن عوص، وهو ثعلبة ابن بورا، وهو بوز ابن شوحا وهو سعد رجب، ابن يعمانا، وهو قموال ابن كسدانا، وهو محلم ذو العين، ابن حرانا، وهو العوام، ابن بلداسا، وهو المحتمل، ابن بدلانا، وهو يدلاف، وهو رائمه، ابن طهبا، وهو طالب، وهو العيقان، ابن جهمي، وهو جاحم، وهو علة، ابن محشي، وهو تاحش، وهو الشحدود، ابن معجالي، وهو ماخي، وهو الظريب خاطم النار، ابن عقارا، وهو عافي، وهو عبقر أبو الجنابن عاقاري، وهو عاقر، وهو إبراهيم جامع ابن بيداعى، وهو إسماعيل ذو المطابخ، ابن ابداعي، وهو عبيد وهو يزن الطعان، ابن همادي وهو حمدان، وهو إسماعيل ذو الأعوج ابن بشماني، وهو بشين وهو المطعم في المحل، ابن بثراني، وهو بثرم، وهو الطمح، ابن بحرانى، وهو يحزن، وهو القسور، ابن نلحانى، وهو يلحن، وهو العنود، ابن رعواني، وهو رعوي، وهو الدعدع، ابن عاقاري، وهو عاقر، ابن داسان، وهو الزائد، ابن عاصار، وهو عاصر، وهو النيدوان ذو الأندية، بن القادور إلى بني جاوان، ابن القادور ثم رجع إليهم ثانية، ابن قنادي، وهو قنار، وهو إيامة بن ثامار، وهو بهامي، وهو دوس العتق، وهو دوس أجمل الخلق، بن فالج وقطورا، ابن مقصر، وهو مقاصري، وهو حصن، ابن سمي، وهو سما، وهو المجشر ابن مزرا، ويقال مرهر، ابن صنفا، وهو السمر، وهو الصفي ابن جعثم، وهو عرام، وهو النبيت، وهو قيذر، ابن إسماعيل صادق الوعد، ابن ابراهيم خليل الرحمن بن تارخ ابن ناحور بن ساروع بن ارغوا ابن بالغ فهو فالج بن عابر بن شالح بن ارفخشد بن سام بن نوح ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس ابن يرد ابن مهلائيل بن قينان بن انوش ابن شيث وهو هبه اللّٰه ابن آدم.26
وعلى الرغم من أن المؤرخين وكتاب السير قد سجلوا روايات مختلفة عن نسب عدنان، إلا أنه من الحقائق الثابتة أن عدنان كان شخصية بارزة من ذرية النبي إسماعيل ، ويصل نسبه إلى النبي إسماعيل من خلال سلسلة من الأجداد. وتوجد اختلافات في أسمائهم أيضا،27 لكن يرجع سبب ذلك إلى أن هذه الأسماء قد ترجمت من لغة مختلفة وأن أشخاصاً مختلفين قاموا بترجمة هذه الأسماء بطرق مختلفة، إضافة إلى ذلك، فإن هذا النسب قد قدمه أهل الكتاب، وهو موثق بشعر العرب القدماء. علاوة على ذلك، فإن هذا النسب معتمد أيضًا من قبل مجموعة كبيرة من أهل القبائل العربية28 الذين كانوا خبراء حقيقيين ورواداً في مجال الأنساب. ويذكر الإمام الصحاري أن النسب يُعتمد عليه إذا ثبت من سجلات الملوك ومن شعر القدماء.29
يتضح من الأدلة المذكورة آنفًا أن نسب النبي محمد محفوظ. كما يتضح أن النبي محمد كان من نسل النبي إبراهيم ومن ذرية ابنه إسماعيل ومن نسل عدنان الذي كان من ذرية إسماعيل. و على الرغم من وجود اختلافات في الأسماء وعدد الأحفاد بين إسماعيل وعدنان إلا أنه قد أجمع المؤرخون والعلماء وثبت بين العرب أيضاً أن عدنان كان رجلاً صالحاً وكريماً من أصل إبراهيم .30 وسكنت ذرية عدنان في شمال الجزيرة العربية على الأغلب وهم يسمون الشماليين واشتهرت من ضمنهم الثقيف والتميم والكنانة وعلى رأسهم قريش.31
كان نبل النسب من علامات النبوة وبراهينها، كما أشار إليها جعفر بن أبي طالب في حديثه الشهير مع الملك الأثيوبي نجاشي، عندما ذكر أحد أسباب الإيمان بمحمد قال أن اللّٰه أرسل إلينا نبياً، هو من أهلنا، نعرف نسبه وصدقه وإخلاصه وشفافيته. اقتبس ابن هشام كلمات جعفر على النحو التالي:
بعث اللّٰه إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه.32
وروي عن النبي محمد أنه قال موضحاً أهمية نسبه:
إن اللّٰه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم.33
فكل أسلافه رجالاً ونساءً كانوا خير أممهم في الخُلق والنبل والكرامة والنجابة.
ويروي علي بن أبي طالب أن رسول اللّٰه ذكر نسبه وقال إن جميع أجداده في جميع الأجيال أقاموا علاقاتهم الزوجية بالنكاح الشرعي فقط.
لم ينغمس أي منهم من آدم حتى عبد اللّٰه في سفاح القربى أو الزنا أو أي نوع آخر من العلاقات غير المشروعة.34 فأكد رسول اللّٰه محمد أن أمته وقبيلته وعائلته وأهل بيته هم خير خلق اللّٰه كافة. ويسجل الإمام الترمذي قول رسول اللّٰه :
إن اللّٰه خلق الخلق فجعلني من خيرهم من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا، وخيرهم بيتا.35
يقتبس الإمام أحمد رِضا خان الهندي عبارة السيوطي ويذكر أن مصطلح "خير القرن" المذكور في الحديث أعلاه لا يمكن استخدامه لغير المؤمن.36 إنه يلقى الضوء على حقيقة أن جميع أسلاف النبي كانوا مؤمنين موحدين، إضافة إلى كونهم أناساً نبلاء وكرماء في عصرهم. وهذا ما أيده الزرقاني الذي يقتبس رواية تقول: إن نوره كان ينتقل دائمًا من الرجال الطاهرين إلى أرحام النساء الطاهرات.37
يؤكد القاضي عياض موضحاً أن نور الرسول كان دائمًا محفوظًا في أناس نبلاء وطاهرين. ويقول راوياً عن ابن عمر أن نوره كان محفوظًا في صلب آدم عندما نزل إلى الأرض. ثم بعد عدة أجيال وصل إلى صلب إدريس ثم إلى صلب نوح ، وانتقل من نوح إلى سام ثم وصل إلى إبراهيم ، ثم واصل رحلته عبر أصلاب نبيلة وأرحام نقية في كل جيل. وبهذه الطريقة انتقل نور محمد من آدم وحواء إلى عبد اللّٰه وآمنة رضى اللّٰه تعالى عنهما.38 ويشهد هذا السرد على أن جميع أسلاف النبي كانوا أشرف الناس في عصورهم. و كان الناس من حولهم يوقرونهم لكرامتهم وكرمهم.
إن كرامة نسبه قد رسخت في قلوب الناس واعترف بها في الجزيرة العربية لدرجة أن المعارضين اللدودين أيضاً كانوا يعترفون بكرامة نسبه. وكان أحد هؤلاء المعارضين أبو سفيان بن حرب( ) قبل قبوله الإسلام، الذي أكد في بلاط هرقل، الإمبراطور الروماني، أن محمداً كان أشرفهم نسباً.
عندما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب( ) عن نسبه ، أجاب أن محمدا طاهر وأن نسبه أفضل النسب.39 وجاء في هذه الرواية أن هرقل سأل أبا سفيان أسئلة كثيرة عن النبي . فلما استمع هرقل في تلك الجلسة إلى أجوبة أبي سفيان كلها، علّق على كل سؤال وجواب على حدة. قال هرقل عن نسبه ما يلي:
إني سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.40 41
وكان هناك خصم آخر له وهو عتبة بن ربيعة، أحد كبار زعماء قريش. أرسلته قريش إليه في المرحلة الأولى من دعوته، مع عدد من العروض البديلة من قريش لترك رسالته. عندما وصل إليه وبدأ الحديث معه، فعرف بحقيقة أن محمداً يتمتع بسمو المكانة وعلو النسب بين قريش كلهم.42
وهكذا، فإن علو نسب الرسول كان معترفاً به حتى من قبل أعدائه الذين بقوا على عداوته مدى حياتهم، وقد ترسخت في أذهانهم هذه الحقيقة لدرجة أنهم لم يتمكنوا من إنكارها وأيقنوا أن محمداً أفضلهم نسباً وحسباً.